مقالات وكتاب

القائد إشناص

هل فكرت يوما أن مديرك في العمل صاحب الشخصية الفولاذية التي تتصف بالقوة والصلابة، هو نفس الشخص عند تعامله مع أهل بيته في المنزل؟ هل تتبدل تلك الشخصية بتغير الأدوار والأماكن؟
دعونا نستعرض قصة واقعية تحكي عن قائد في جيش الدولة العباسية في زمن المعتصم، يدعى” إشناص”. كان هذا القائد الشجاع والفارس المقدام محور اهتمام الكثيرين. كان سياسيًا محنكًا، حيث شارك في إخماد العديد من الثورات التي اندلعت في مناطق نفوذ الدولة العباسية، مثل الثورة الخرمية وثورة البرامكة والثورة الحرورية. وقد لعب إشناص دورًا كبيرًا في فتح عمورية وتحطيم سلطة حكام بيزنطة. كما تولى “إشناص” مناصب عديدة، منها ولاية مصر عام ٢١٩ هـجرية، وحضوره في مجلس المعتصم كأمراء آل العباس عام ٢٢٥ هـجرية، وتم تعيينه بعد ذلك واليًا على الشام والجزيرة في آن واحد؛ هذه بعض التفاصيل عن حياته العملية والسياسية. أما عن حياته خارج محيط العمل، فقد كانت حياته الشخصية والأسرية حياة مختلفة تماما، فقد كان محبا للخمر يشربه حتى الثُمالة، فيما كانت زوجته عليه شديدة، غالبة عليه عنيدة، حتى إنه كان يخاف منها بشكل شديد. فإذا علمت زوجته بسكره، كانت تشد ثيابها وتتجه نحوه بقوسها وسهامها، حتى تجده فتضربه وتهدده بالمزيد إن هو كرر فعلته وعاد. ثم تأمره بالعودة إلى المنزل، ليستمر مسلسل انتقاداتها وتوبيخها له حتى ينام.
عندما وصلت تلك الأمور إلى المعتصم، اضطر إلى التدخل لوقف هذا السلوك الذي لا يليق برتبته كقائد عام لجيوش المعتصم. فقام بإرسال رسوله ” ابن العديم” للحديث مع زوجة “إشناص”، ليبين لها مكانة زوجها العالية وقدراته القتالية وحكمته الإدارية فقالت: لا أجيبك في غيابه، وستكون إفادتي حال حضوره، وما هي إلا لحظات حتى حضر “إشناص”، فسألته مكررة، أتكره ما يصدر مني تجاهك نظير ما تفعله أم تحبه؟ فقال: بل أحبه، بل أحبه، ويطيب لي وأُسَرُّ به. فنظرت إلى رسول المعتصم، ليس لك عندي سوى ما سمعت. فانسحب وترك المكان بعد أن عجز عن الرد عليها. بالطبع، غادر “ابن العديم” المكان دون توجيه حلول، وقص للمعتصم جميع ما حدث وكان. ومن هنا، يمكننا الوقوف على شخصية ” إشناص” الذي يتحلى بالذكاء والصلابة في مجال عمله متى كان بعيدا عن زوجته، وبالضعف وعدم التحكم في أمور حياته متى كانت زوجته في الدار أو الجوار. إذ تبين أن هناك رجال، – سواء في زماننا هذا أو في الزمن السابق-، يشبهون “إشناص” في علاقاتهم الأسرية وحياتهم الشخصية. فهؤلاء الرجال يُفضلون التعامل مع زوجاتهم بحذر دائم، سعيًا للحفاظ على السلام والاستقرار، ويرجعون ذلك إلى خوفهم من النزاعات، محاولين تجنب أي شيء يُغضب زوجاتهم من أجل الحفاظ على علاقاتهم الأسرية واستمرارها. وهناك فئة أخرى يخفون ضعفهم أمام زوجاتهم، ويحاولون إيهام من حولهم أنهم أصحاب النفوذ والسلطة، فلا صوت يعلو على أصواتهم، فهم لا يعترفون بضعفهم، مثلما اعترف “إشناص” بضعفه أمام زوجته القوية، وحبه وتقديره لها حتى وهي مستمرة في معاملته بقسوة.
بقلم:
مرزوق بن علي الزهراني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى