عام

عفيف والشقيق والقراءات السبع

أعظم ما تستثمر فيه الأموال دعم المشاريع الدعوية والتربوية التي تستهدف بناء أبنائنا عقديا وفكريا وثقافيا وسلوكيا، وتحفظ عليهم أوقاتهم ونستثمرها في تعلم الخير وتعليمه

علم القراءات من العلوم الصعبة التي تحتاج من طالبها جهدا كبيرا في إعمال ملكة الحفظ والحس اللغوي والذائقة الأدبية والمهارات اللسانية، كما تستلزم الضبط على شيخ متقن، إذ إن التمييز بين الأوجه ومعرفة درجات الإمالة والتفخيم والترقيق لا يمكن ضبطها بالقراءة، ولا بد فيها من السماع والتلقين والمراجعة، وكان هذا العلم لصعوبته واحتياجه لملازمة الشيوخ فترات طويلة ينحصر تدريسه في العواصم العلمية العربية الكبرى، فكان على من حزم أمره على أخذه مضطرا إلى شد الرحال إلى دمشق أو القاهرة لتوافر القراء المسنِدِين هناك؛ حيث كان هؤلاء القراء قليلين في العواصم العلمية الأخرى كبغداد ومكة والمدينة، ناهيك عن القيروان وفاس.
وفِي الأسبوعين الماضيين قمت بزيارتين لمدينتين غاليتين من بلادنا الحبيبة:
الأولى عفيف، وهي إداريا محافظة تتبع إمارة الرياض وتبعد عنها غربا قريبا من الخمسمائة كيلومتر في وسط الصحراء النجدية؛ والأخرى مدينة الشُقَيق، وهي إداريا مركز يتبع إمارة جازان ويبعد عنها قرابة المئتي كيلومتر، وهي حَرِيَّة أن تكون محافظة بالنظر لتعداد سكانها والمشاريع الحيوية التي أقامتها دولتنا المباركة فيها.
حَضَرتُ في عفيف حفل تخريج حفاظ كتاب الله تعالى، وكان عددهم كبيرا ولله الحمد والمنة، وليس هذا بالمستغرب ولا الجديد، لكن الجديد بل والعظيم الذي تطال به الرؤوس الثريا: أن نجد جمعية تحفيظ القرآن بعفيف تُخَرِّجُ حفاظا للقرآن بقراءاته السبع المتواترة، هذه المدينة حديثة النشأة والتي تكونت بسبب انكفاف أبناء البادية عن الظعن وتتبع مواطن القطر بعدما أنعم الله عليهم بهذه الدولة السعيدة، وبلغ اليوم من حضارتها أن أصبح يتخرج منها وفيها قراء مسنِدون لكتاب الله عز وجل بعدما كان هذا الإسناد تضرب لأجله أكباد الإبل في دمشق والقاهرة.
وقد تشرفت بالمشاركة في تسليم الحفاظ إجازاتهم بسندها المتصل من الطالب عن شيخه حتى أبي عبدالله السلمي وزِرِّ بن حبيش عن عثمان وأُبَيٍ بن كعب وزيدٍ بن ثابت وابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جِبْرِيل عليه السلام عن الله عز وجل وتبارك وتعالى.
أما الشُّقَيق تلك الضاحية البحرية التي صارت مؤخرا مُصَدِّرة للماء العذب والكهرباء إلى مناطق جازان وعسير والباحة ونجران مما جعل منها منتجعا شتويا وربيعيا لأبناء المملكة فقد أصبحت أيضا مُصَدِّرة لحفاظ القرآن ومعلميه، والتقيت حفاظها الذين فاز عدد منهم بمسابقات على مستوى الدولة والإقليم، ووجدت المكتب التعاوني هناك ينشط ليجعل من الحفاظ علماء المستقبل عبر إعداد برامج علمية مُجازة نظاما لفتح أبواب العلم الشرعي لهم، ونتج عن ذلك حتى الآن ثمار طيبة، نسأل الله تعالى أن يزيدها ويمدها من فضله.
وقد ذكرت هاتين المدينتين لأن آخر عهدي بالتجوال في بلادي الحبيبة كان فيهما، والعهد بهما قريب، كما أنهما من البلدات النائية والتي حين أذكر حجم الخير فيهما فإني بالقياس الجلي أدل على أضْعَافِه في المدن الكبرى وعلى ما يماثله في المناطق التي تماثلهما.
ووزارة الشؤون الإسلامية مشكورة تقف وراء هذه النجاحات التي تحققها فروع جمعية تحفيظ القرآن في جميع مدن وقرى المملكة، وكذلك المكاتب التعاونية للدعوة وتوعية الجاليات، من حيث التنظيم والمراقبة وتسهيل الإجراءات النظامية والمتابعة العلمية، ومع ذلك فإن هذه المؤسسات تطمح لأن تكون شريكا تربويا لجميع مؤسسات الدولة المعنية بتكوين الشاب السعودي تكوينا علميا وتربويا يؤهله ليكون غُرَّة في جبين الدنيا ثقافة وأخلاقا.
فالشراكة التكاملية ضرورية بينها وبين وزارات التعليم والشؤون الاجتماعية والداخلية ورعاية الشباب وهيئة السياحة، وذلك أن الهدف الأسمى لجمعيات تحفيظ القرآن والمكاتب التعاونية إنما هو الدعوة، ويمكنك أن تُدْخِل تحت هذا الهدف كل ما تقوم به من مناشط، ومن دون أدنى شك لدي فإن مصطلح التربية ينبغي أن يكون مرادفا لمصطلح الدعوة، أو على أقل تقدير يكون بينهما عموم وخصوص من وجه، فلا يستغني أحدهما عن الآخر ليتكون منهما مصطلح «التربية الدعوية» أو «الدعوة التربوية»، الأمر الذي يُحَتِّم الشراكة بين مؤسسات كل منهما. وفي عصر حملات ومشاريع التشويه الفكري المنظم والمتمثل في جر الشباب نحو الفكر التغريبي أو الفكر المناقض له وهو فكر الغلو والتطرف، في هذا العصر يحتاج الشباب إلى محاضن تعتني بهذه التربية الدعوية والدعوة التربوية، وللقائمين على هذه المؤسسات أعني جمعيات التحفيظ والمكاتب التعاونية مشاريعهم وأفكارهم الكثيرة والتي يمكنها تهيئة هذه المحاضن، لاسيما تلك التي يجب أن تكون خارج المدرسة، وللحقيقة فإنني لا أعرف حاليا في بلادنا جهة تعتني باحتضان الشباب في النشاط ما بعد فترة الدراسة سوى المناشط التي تهيؤها المكاتب التعاونية وجمعيات التحفيظ، وهي بحاجة ماسة إلى التطوير الذي لن يكون دون مبادرة جميع الجهات الحكومية بالتعاون معها والاستفادة من خبراتها، ومن ثَمَّ تهيئة جميع الإمكانات التي لدى هذه الوزارات لإنجاح مناشطها وتوسيع مجالاتها.
والحق يقال فإنني أشهد شهادة مُطَّلع لعدد قليل من الشركات الكبرى في القطاع الخاص، لاسيما العائلية منها، بالمساهمة الكبيرة في الدعم المادي للمكاتب التعاونية وجمعيات التحفيظ، لكنني آسف كثيرا لأن يكون القليل من هذه الشركات الكبرى هو من يقوم بالدعم، ولا أعلم ما الذي يحول بين رجال الأعمال وبين دعم هذه الأنشطة التي لا شك أن دعمها من أعظم القربات إلى الله تعالى، بل هو من الجهاد بالمال ومن الإنفاق في سبيل الله، والله تعالى يقول: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)، فدلالة السياق في هذه الآية توحي بأن عدم الإنفاق في سبيل الله من أسباب الإلقاء باليد إلى التهلكة، ومن أعظم ما تستثمر فيه الأموال دعم المشاريع الدعوية والتربوية التي تستهدف بناء أبنائنا عقديا وفكريا وثقافيا وسلوكيا، وتحفظ عليهم أوقاتهم ونستثمرها في تعلم الخير وتعليمه.
ومن أعظم ما يؤدي بالمجتمعات إلى التهلكة ترك أبنائنا دون محاضن تربوية لتتخطفهم وسائل الإعلام الرديء ووسائل التقنية الحديثة ورفقة السوء وتلقي بهم إلى قرار سحيق، ثم نعود باللوم في ذلك على مناهجنا الدراسية، دون أن نلتفت إلى السبب الحقيقي، وهو ترك أبنائنا دون احتضان تربوي من حين خروجهم من المدرسة حتى عودتهم إليها.
إن جمعيات التحفيظ والمكاتب التعاونية تمتلك مشاريع وقفية أكثرها في طور الإنشاء ودعمها من قِبَل الشركات الكبرى ورجال الأعمال هو من قبيل الصدقة الجارية التي لا تنقطع بإذن الله تعالى.
ولا داعي لأي قلق يمكن أن ينتاب المتبرعين لها، فهي تحت نظارة لجان من الأخيار، وتخضع لإشراف ومتابعة حكومية تتمثل في وزارة الشؤون الإسلامية، وليست بعيدة أيضا عن ملاحظة الجهات الأمنية.
وفي الختام، أوجه رسالتي إلى القائمين على التبرعات في الشركات السعودية الكبرى إلى زيارة المكاتب التعاونية وجمعيات تحفيظ القرآن في سائر مناطق المملكة، ليروا بأعينهم حجم الخير الذي تقدمه لبلادنا ويقدروا عِظَم الأجر الذي سينالونه بدعمها، ثم لا يبالون بقول مرجف يحذرهم من هنا أو هناك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى