مقالات وكتاب

الرياء المهني

بقلم ـ مرزوق بن علي الزهراني

يا أيها الرجل المعلم غيرَه هلَّا لنفسك كانَ ذَا التعليمُ
تصف الدواءَ لذي السقامِ وَذِي الضنى كيما يصح بِهِ وأَنت سقيمُ
ابدأ بنفسك فَانْهها عَن غَيِّها فإِذَا انْتَهَت عَنه فَأَنت حكيمُ
فهناك تُعذر إنْ وعَظْت ويُقتدى بالقول منك ويحصل التسليمُ
لا تَنهَ عَن خلق وتأتيَ مثلَه عارٌ علَيْك إذا فعلتَ عظيمُ

يحكي أحد الأصدقاء، الذي يعمل في أحد المجالات الوظيفية، قصة تعكس عمق التناقضات الإنسانية وطبيعة الأخلاق في المجتمعات الوظيفية؛ ما يفتح مجالًا واسعًا للتأمل الفلسفي. في موقفٍ غير متوقع، وجد نفسه عالقًا في خطأ علمي، وهو خطأ لم يكن فريدًا من نوعه، بل سبقه إليه عديد من زملاء المهنة، وما زال الكثيرون يرتكبون أخطاءً مشابهة ومماثلة، بل وأحيانًا قد تكون أكبر من ذلك الخطأ وبمراحل. وهذا يُظهر بأن الأخطاء جزء من التجربة الإنسانية، وأن الكمال ليس سمة بشرية.

المثير في الأمر هو رد فعل زملائه في العمل. فبدلًا من أن يتعاملوا مع الأخطاء البشرية على أنها جزء من التجربة الإنسانية في مجال العمل، انقضوا عليه خفية كالنُقاد الجرحى، فأشهروا عليه سيوفهم ووجهوا إليه سهامهم وأطلقوا نحو صدره المكشوف نبالهم. لقد استنكروا فعله، وأدانوا تصرفه مُطالبين بإقصائه من التخصص الذي يعمل فيه، متناسين في غمرة انفعالهم ما يقومون به من أفعال مماثلة بل قد تكون أشد وطأة.
وهنا، تبرز التساؤلات الفلسفية عن طبيعة الأخلاق: هل نحن حقًّا نعيش وفقًا للمبادئ التي نُعظّمها، أم إننا نكون أحيانًا أسرى لنفاق اجتماعي يجعلنا ننسى إنسانيتنا المشتركة؟

تُظهر هذه القصة كيف أن الأخلاق ليست مجرد شعارات نرفعها، بل هي سلوكيات يجب أن تُترجم إلى أفعال. إن هؤلاء الزملاء، الذين لم يكتفوا بإدانة خطأ الزميل، بل عملوا على محاربته والتضييق عليه، لإيمانهم بحتمية استبعاده، يغفلون عن حقيقة أنهم أنفسهم ليسوا في منأًى عن ارتكاب الأخطاء. وهذا يُعيدنا إلى فكرة التناقض بين الباطن والظاهر، إذ يُمكن أن يكون الفعل المناقض للقيم أكثر شيوعًا مما نتصور. إن هذه الديناميكية تُشير إلى صراعٍ عميق داخل النفس البشرية؛ فكل واحد منا يحمل في داخله الرغبة في أن يكون أخلاقيًّا، ولكنه في الوقت نفسه قد يقع في فخ النفاق.

من المهم أن نتأمل في الدوافع التي تجعل الأفراد يتخذون سلوكيات انتقادية تجاه الآخرين، مع أنهم في الحقيقة يمارسون ما ينتقدونه. هل يعود ذلك إلى إظهار المكانة وتأكيد الدرجة العلمية وإبراز المنصب؟ أو هي الرغبة في الظهور بمظهر المثالية الزائفة أمام المجتمع؟ إن هذه الأسئلة تشير إلى عمق الصراع النفسي الذي يداهمنا جميعًا، والذي غالبًا لا يكون عن وعي كامل. ومن هنا، تُطرح فكرة الوعي الذاتي أداةً أساسية لفهم سلوكياتنا. يجب أن نتساءل: ما الذي يدفعنا إلى الحكم على الآخرين؟ هل نحن محصنون من الأخطاء، أم أننا نحتاج إلى النظر في مرآة سلوكياتنا الخاصة؟

ولا مندوحة من القول، بضرورة ترجمة القيم الأخلاقية إلى سلوكيات ملموسة، وأن نكون واعين لتأثير تصرفاتنا في الآخرين. لذا، يجب علينا جميعًا أن نعمل على تعزيز ثقافة التعاطف والتفاهم، وأن نكون مستعدين للاعتراف بأخطائنا والتعلم منها. إن هذه الديناميكية تُعزز من قدرة الفرد على النمو والتطور؛ ما يُسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا.

وخلاصة القول إن رحلة تحقيق التوافق بين القول والفعل رحلة مستمرة، تتطلب منا الصبر والوعي والانفتاح على التعلم. دعونا نتذكر أن كل واحد منا هو جزء من هذا النسيج المجتمعي، وأن تصرفاتنا تؤثر في الآخرين تأثيرًا أكبر مما نظن. فلنعمل على تجاوز عثراتنا، ولنحرص على أن نكون نموذجًا يُحتذى، ومثالًا يُقتدى، حتى نستطيع تحقيق ما نؤمن به في حياتنا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى