بين الثمن والقيمة: إدراك الذات في عالم لا يُقدّر
بقلم: مرزوق الزهراني
لكل شيء “ثمن”، ولكن لا يعني ذلك أن لكل شيء “قيمة”
العبارة السابقة تحمل في طياتها عمقًا فلسفيًا يستدعي التأمل في طبيعة الأشياء من حولنا، وفي كيفية إدراكنا لقيمتها. فالثمن هو ما ندفعه للحصول على شيء ما، وقد يكون ذلك الثمن ماديًا أو معنويًا، بينما القيمة تعكس الأهمية الحقيقية لذلك الشيء وتأثيره على حياتنا وتجاربنا.
عندما نتحدث عن الثمن، نتحدث عن المعاملات، عن الصفقة التي تُبرم، عن المقايضة التي تتم. أما القيمة، فهي مفهوم أعمق من ذلك بكثير، لكونها ترتبط بالمعاني والدلالات التي يحملها الشيء في سياقات مختلفة. إننا نعيش في عالم يترجم الكثير من تجاربنا إلى أرقام وثمن، مما قد يجعلنا نغفل عن الجوهر الحقيقي للكثير من الامور التي تحيط بنا.
الحياة مليئة بالأشخاص والأشياء التي قد لا تُعطى لنا القيمة التي نستحقها، وهذا ما قد يتسبب في اثارة مشاعر الحزن أو الإحباط لدينا، خاصة عندما نجد أن الذين من حولنا لا يدركون قيمتنا الحقيقية. فكم من عقول نابغة، وقلوب مفعمة بالحب، وأرواح مضيئة، لم تُقدَّر حق قدرها. أن هذا الإغفال عن القيمة يمكن أن يترك أثرًا عميقًا على انفسنا، ولكن يجب أن نتذكر أن قيمتنا الحقيقية لا تتأثر بتقدير الآخرين.
في سياق هذه الفكرة، يأتي ذكر نبي الله يوسف عليه السلام، الذي يعد مثالاً حيًا يمكن الاستشهاد به على هذا الموضوع. فقد عاش يوسف عليه السلام حياة الرق بعد أن ابتيع بثمن بخس، وهذا يقودنا إلى القول بالتقليل من قيمته الحقيقية من قبل الذين كانوا حوله. ومع ذلك، كان يوسف عليه السلام مثالًا للصبر والثبات، محتفظًا بقيمته الذاتية رغم الظروف القاسية التي واجهها. هنا، يتضح أن القيمة الحقيقية لا تتعلق بما يراه الآخرون، بل هي جزء من جوهرنا الداخلي.
إن تجربة يوسف عليه السلام تعلمنا درسًا عميقًا حول كيفية تحديد قيمتنا في عالم قد لا يُقدرها. فالقيمة الحقيقية تأتي من الداخل، من خلال إدراكنا لذواتنا، ومن إيماننا بقدراتنا على تجاوز الصعاب والعقبات والتحديات التي تواجهنا. إن تقدير الذات هو أحد المفاتيح الأساسية لفهم القيمة الحقيقية للذات البشرية، إذ لا يمكن أن ننتظر من الآخرين أن يعطونا التقدير الذي نستحقه ونرغب فيه، بل يجب أن نبني هذا التقدير من داخلنا.
عندما نواجه عدم تقدير الآخرين، يجب أن نتذكر أن القيمة ليست دائمًا مرئية، فالعديد من الأشياء الثمينة تُخفى تحت السطح، مثل الألماس الذي يحتاج إلى التنقيب لاستخراج جماله الحقيقي. كذلك، الشخصيات العظيمة والنفوس الراقية قد لا تُعرف قيمتها إلا بعد فترة طويلة من الزمن، أو قد تبقى غير معروفة لأجيال. وهذا هو التحدي الذي يواجه كل إنسان. إذن كيف يمكننا أن نكون على دراية بقيمتنا، وأن نعيش وفقًا لها، حتى عندما لا يدرك الآخرون ذلك؟
إن القيمة الحقيقية تُختبر في الأوقات الصعبة التي تعصف بنا، حيث يظهر معدن الإنسان في مواجهة مختلف العواصف والشدائد التي تعصف به. ويمكن أن تكون التجارب الصعبة هي التي تُبرز قدرتنا على التكيف والنمو، وتجعلنا نعيد تقييم ما هو مهم حقًا في حياتنا. فالأزمات تكشف لنا عن جملة من القيم التي نعتز بها، وتوجهنا نحو تحقيق أهدافنا الحقيقية.
وقياسا على ما سبق، فإن إدراكنا بأن الثمن لا يُعبر عن القيمة يتطلب منا أن نكون حكماء في تقييم جوهر الأشياء، لكون القيمة الحقيقية لا تتحدد من خلال المظاهر أو التقديرات الخارجية، بل تنبع من فهمنا لذواتنا فهما عميقا ولمقدار تأثيرنا في من يحيط بنا. إن التحرر من قيود التقدير الخارجي يمنحنا مجموعة كبيرة ومتنوعة من الخيارات التي تدعم فرص استمدادنا للقوة من داخلنا بعد التوكل على الله تعالى، مما يُعزز إيماننا بأن القيم الحقيقية تقاس بالأثر الذي نتركه، لا بالثمن الذي ندفعه. فلنستمر في السعي نحو ديمومة التعلم والنمو الفكري، مستشعرين عمق القيم التي تشكل وجودنا وتأثيرنا في محيطنا.
“أنت لست قطرة في المحيط، بل أنت المحيط كله في قطرة.” – جلال الدين الرومي ـ