وقفات ودروس من حروب بخروش بن علاس لجحافل الأوباش والأنجاس (٢)
بقلم:مرزوق بن علي الزهراني
لم يعتمد الأمير بخروش في حروبه مع جحافل العثمانيين على المواجهات المباشرة فقط، بل استخدم تكتيكات حرب العصابات ببراعة، فقد نفذ غارات متعددة على خطوط إمدادات العثمانيين. وقد تجاوز الحرب العسكرية والنفسية إلى الحرب الاقتصادية ضد مكة والقبائل المتعاونة مع العثمانيين، فأدى إلى قطع ثلث إمداداتهم فارتفعت أسعار السلع لديهم ارتفاعًا كبيرًا.
في شهر رمضان من سنة ١٢٢٩هـ، استعد الباشا بجيش آخر مجهز بأسلحة ضخمة، تحت قيادة عابدين بك لمحاصرة الأمير بخروش في قلعته، وكانت تجهيزات بخروش يسيرة ومحدودة. اشتدت المناوشات ضراوة، وتحفزت القوات العثمانية على التقدم باتجاه بخروش. في اليوم الأول، كان هناك تبادل لإطلاق النار من الجانبين، وفي صباح اليوم التالي بدأت المعركة.
استمرت المعركة ساعات، وسقطت أعداد كبيرة من القوات العثمانية، فاضطر عابدين بك إلى الانسحاب والفرار من ساحة المعركة، ليستمر بخروش في مطاردته يومين حتى وصل إلى أسوار الطائف. ثم أرسل بخروش رسالته التاريخية إلى الباشا، قائلًا: “إذا كان هؤلاء جنودك، فخير لك أن تعود إلى حرمك، وتستمتع بمشاهدة مياه النيل، وإلا فأحضر رجالًا غيرهم.”
في ٢٨ من المحرم ١٢٣٠هـ قرر الباشا السير بجيشه الحاشد والانضمام إلى جميع قواته وتغيير خططه الإستراتيجية، والاستعانة بمقاتلين على دراية بالجبال. وأرسل كل قوى الدعم والتعزيزات من قوات المشاة مع أسلحة الميدان الثقيلة لتأخذ أماكنها في مواجهة القوات السعودية. نفذت الخطة بدقة، وعندما رأى بخروش وبقية القادة انسحاب القوات العثمانية، تقدموا بشجاعة وبسالة إلى سهل بسل تاركين تحصيناتهم الجبلية. وما هي إلا سويعات حتى أمر الباشا بالتقدم، ونصب المدافع لضرب القوات السعودية التي كانت في مرمى المدفعية، فتقرر مصير المعركة لمصلحة القوات الغازية. قاتل بخروش وبقية قادة القوات السعودية وجنودها بكل ما أوتوا من قوة، وقتل فرس بخروش بن علاس فتمكن مباشرة من الوصول إلى أحد الجنود العثمانيين فقتله وامتطى فرسه.
وفي اليوم التاسع من ربيع الثاني من عام ١٢٣٠هـ، أرسل الباشا حملتين للقضاء على بخروش في عقر داره، فرتب بخروش قواته داخل الحصون والأبراج، واستمرت المعركة ست ليالٍ. استطاع عابدين بك نصب المدافع على الجبال المطلة على قلعة بخروش وقصفها فألحق بها دمارًا شاملًا، وتمكنت قوات العثمانيين من قتل أعداد كبيرة من رجال زهران. وفي ليلة من ليالي الحصار غادر بخروش القلعة مع عدد من رجاله في مهمة سرية. فاستغل الباشا غيابه ليتحايل على السكان بمنحهم الأمان على أن يسلموا بخروش، فما كان إلا أن قُبض عليه وسُلم للباشا.
تمكن بخروش من كسر قيوده والخروج من زنزانته، ولكن سرعان ما أحاط به جنود الشر، فاستل خنجره ببسالة، وقتل ضابطين مصريين وجرح الثالث دون تردد. قبض الجنود العثمانيين عليه وأحضروه إلى الباشا، الذي سأله بصرامة: “بأي حق قتلت رجالي؟” فرد بخروش بثبات وقوة: “أصبحت حرًا، لذلك أفعل ما أريد!”. فأجابه الباشا ببرود قاسٍ: “وأنا كذلك أفعل ما أريد!”. فأمر جنوده بطعنه طعنات غير مميته متفرقة في جسده واستمروا على ذلك الحال ردح من الوقت وهو صابر محتسب لم يتأوه جراء ذلك ولم يتفوه ببنت شفة، ليأمر الباشا رجاله بقطع رأسه وإرساله على الفور إلى مصر مع رفيق دربه طامي بن شعيب ومن ثم إلى إستانبول، لتدق طبول النار فرحًا داخل عقول العثمانيين، ويهتز وتر الحزن في صدور العرب، ألحان تعزفها أقدار الزمان.
هكذا انتهت رحلة المجاهد الأمير بخروش، تاركًا وراءه إرثًا من البسالة والفروسية، ليظل في تاريخ العرب شخصيةً خالدة. وكما قال عنه المؤرخ الإيطالي “جيوفاني فيناتي”، الذي رافق غزو العثمانيين: “لم يشهد العرب أشجع من بخروش في زمانه”. عاش حياة ملؤها البطولات والتضحيات، ليصبح رمزًا خالدًا في ذاكرة الأجيال، وجزءًا من التراث العربي الذي نفخر به في كل مكان وزمان.