حياة التأمل والنظر
بقلم ــ مرزوق بن علي الزهراني
يخطئ من يعتقد أن حياة التأمل والانسجام، التي يمارسها بعض البشر الموفقين والمسددين، تقتصر على البشرية فقط. فهذه الحياة تتجاوز الحدود البشرية وتتعدى مفهوم الإنسان، حيث يتجلى هنا تعقيد الإنسان وعمق روحه، كما يكمن في القلب والعقل البشريين جوانح لا تنتهي للفهم والاستكشاف. وإذا كان هناك شيء يميز الإنسان عن باقي المخلوقات في هذا الكوكب، فهي القدرة على التأمل والانسجام مع العالم والكون بشكل عميق.
ومما لا شك فيه، أن في الذات الإنسانية شيئا يفوق ويتجاوز الإنسان بما هو أنسان وبمراحل كبيرة ومهولة، فهناك أبعادًا أعمق وأكثر اتساعًا للإنسان مما يمكن أن يدركه في الحياة اليومية، حيث تشمل الأبعاد الروحانية، تلك الروحانيات التي تميز الإنسان وتمنحه إمكانية الاتصال بأبعد الوجوديات والكشف عن أسرار الكون. وعلى الرغم من أن هذا العالم الروحي يبدو أحيانًا معقدًا، إلا أنه يمكن للإنسان أن يستكشف بعضه لا كله ويفهم جزءاً منه لا جله من خلال ممارسة التأمل والنظر بكل صوره وانواعه وأشكاله. فالتأمل ليس مجرد ممارسة روتينية بل هو تجربة عميقة وشخصية تتيح للفرد الاتصال بعمق ذاته وبالكون المحيط به.
ومنذ أن فضّل الله سبحانه وتعالى الإنسان وأكرمه بنعمة العقل وجعله مناطَ التكليف، فإن تعطل عقل الإنسان يُعدّ انحرافًا عن مبدأ التكريم الإلهي الذي خص به الإنسان وجعله متفوقًا على سائر الكائنات والوجوديات. لذلك، فإن استخدام العقل هو مطلب شرعي يؤدي إلى إرشاد واستقرار حياة الناس. ومن هنا، ندرك أهمية التأمل والدور الذي يلعبه في الوصول إلى الحكمة وكيفية تقريب مفهومها وإيضاح أهميتها وتوضيح مجالاتها وتمييز ثمارها.
وعندما يشرع الإنسان في تأمل ملكوت السماوات والأرض وإبداعاتها التي تحير العقول، تتدفق الأفكار وتتساقط تحت روائع هذا الكون المدهش حتى وصلت العقول العظيمة إلى حد العجز التام أمام تلك العجائب، فقد بائت التقنيات والوسائل الحديثة بالفشل في فهم غاية هذا الكون الواسع الذي يتميز بتعقيداته وأبعاده الشاسعة. وعلى الإنسان أن يدرك أنه بالإمكان أن تنغمس قدماه في تفاصيل الحياة الدقيقة، وفي الوقت ذاته يمكنه رفع نظره للأعلى ليلاحظ سلوك النجوم والكواكب. ومن خلال مراقبة هذه الجسيمات السماوية ودراسة طريقتها في الظهور والاختفاء، يمكن للإنسان أن يكتشف جزءًا صغيرًا من إعجاز نظام الكون وتصميمه الرائع.
وختاما، يجب على كل من يسعى إلى النمو الروحي والارتقاء إلى طبقات الوعي والمعرفة، أن يبدأ بممارسة التأمل العميق، وأن يدرك أنه من خلال هذه العملية يمكنه أن يكتشف المزيد عن العالم الخارجي والعوالم الخفية. تلك الرحلة ستكون محفزة وملهمة، وستساعد الإنسان على بلوغ مستويات جديدة من الوعي والفهم والادراك والارتقاء.