“المَوضُوع فِيه إنّ”
بقلم ــ مرزوق بن علي الزهراني
قيل قديما أن البقاء للأقوى، و لكن هذا الأمر خاطئ تماما؛ البقاء، ليس للأقوى، للأكثر ذكاء من الأجناس، و الأكثر تجاوباً وتكيفا مع التغيير.
يقول أحد الأصدقاء: يسألني في العادة كل من ألتقيه في مناسبة خاصة أو عامة: “هل أنهيت دراسة مرحلة الدكتوراه التي شرعت في دراستها بالولايات المتحدة الأمريكية؟” فأخبرهم بأنني لم أنتهِ بعد، وتمر الأمور على خير، مكتفين بطرح السؤال ذاته دون زيادة أسئلة أو استفسارات. وذات مرة الح أحدهم على معرفة الأسباب التي منعتني من العودة لذلك حاولت مراوغته والتهرب من إجابته، فأردف قائلا: “ما الذي حدث؟ أشعر أنك تتهرب من الإجابة، لماذا تراوغنا بهذا الشكل على غير العادة؟”
وعندما وجدت نفسي مجبرًا على الإجابة، قلت له: “يا صديقي، إنني أمارس الحرد الاجتماعي منذ فترة ليست بالقصيرة، لأسباب خاصة.” فقال مستغربًا: يظهر لي أن الموضوع فيه إنّ.”
أثارتني تلك العبارة فبادرته بالسؤال: “وما المقصود بعبارة (في الموضوع إنّ)؟” فقال لي: “ألم تسمع بتلك القصة سابقًا؟” قلت له: “لا لم أسمع بها من قبل. كل ما أعرفه أن عبارة “الموضوع فيه إنّ” كثيرًا ما تردد على مسامعي منذ الصغر ومع ذلك لم يخطر على بالي الاستفسار عن المقصود بها أو المناسبة التي قيلت فيها، ولكنك الآن جعلتني أكثر شوقًا لمعرفة قصة هذه العبارة أكثر من الشوق الذي اعتراك لمعرفة أسباب عدم إكمال دراستي.” فقال لي: “حسنًا، سأخبرك عن مناسبة تلك العبارة بكامل تفاصيلها.
يروى – والعهدة على الرواة – إن مناسبة تلك العبارة يرجع إلى قصة حدثت بمدينة حلب، بسوريا، حيث أن أميرًا ذكيًا فطنًا شجاعًا مقدامًا اسمه علي بن منقذ، حدث بينه وبين ملك تلك الديار محمود بن مرداس خلاف شديد، مما أدى بدوره إلى هرب الأمير من المدينة مخافة أن يبطش به الملك. فأوعز الملك إلى كاتبه أن يكتب إلى الأمير رسالة يطمئنه فيها ويعرض عليه فيها مسألة العودة إلى حلب. وكان من المتعارف عليه آنذاك أن الملوك يجعلون وظيفة الكاتب لرجل ذكي، ليتمكن من إحسان صياغة الرسائل التي ترسل للمملوك والسلاطين والأمراء المنتشرين في الأقطار المختلفة، بل إن الملك كان الكاتب عنه في حالة سفره، وفي بعض الأحيان يتولى الكاتب مقاليد الحكم بشكل رسمي إذا مات الملك.
تنبه الكاتب إلى أن الحاكم ينوي الشر بالأمير، فكتب له رسالة كغيرها من الرسائل، ولكنه ختمها بمقولة “إنّ شاء الله تعالى” بتشديد النون. عندما استلم الأمير الرسالة وشرع في قراءتها، استوقفه خطأ في نهايتها، حيث إن كلمة “إن” في عبارة “إن شاء الله” لا تحتاج إلى شدة، ومع ذلك وضع الكاتب شدة. وبما أنه على علم مسبق بحذاقة الكاتب وفراسته وعلو مهارته، أدرك أن الكاتب يحذره من شيء ما حينما شدد تلك النون، فهو يذكره بقول الله تعالى: “إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك.” لذلك بعث الأمير رده برسالة عادية للملك يشكره فيها على ثقته الشديدة به، ممتدحًا أفضاله وعظيم جوده ولطف تعامله، وختمها بعبارة: “إنّا الخادم المقر بالأنعام.”
استلم الكاتب رسالة الأمير وعندما أتم قراءتها علم أن الأمير لن يعود إلى حلب في ظل وجود ذلك الحاكم المتربص به والذي يريد قتله، بعد أن طلب منه الأمير التنبه إلى قوله تعالى: “إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها”. لذلك أصبحت عبارة “الموضوع فيه إنّ” للدلالة على الشك وسوء النية.
الشخص الذكي حقاً؛ لا يخطو أي خطوة إلا بعد أن يحسب لها ألف حساب. وعلى ذلك، فإنني لا أعرف إن كان صاحبنا ذاك، سيكمل دراسته ويجني ثمرة جهده وتعبه، أم إن صاحبنا لن يتمكن من إنجاز ما تبقى عليه، ما دام أن هناك مجموعة من الناس الذين يسرحون ويمرحون ويقررون مستقبله ومستقبل غيره نيابة عنه وعنهم وبقوة النظام.