مقالات وكتاب

ذكريات الطفولة: تأملات في مرحلة التكوين

بقلم  ــ  مرزوق بن علي الزهراني

“الطفولة هي عطر الحياة، هي المرحلة التي نصنع فيها ذكرياتنا الأولى، ونكتشف فيها العالم من حولنا.”

كأي طفل من أطفال هذا الكون الفسيح، عشتُ فترةً مبكرة من طفولتي في كنف والديّ، إلى جانب سبعة من الأشقاء؛ أربعة إناث وثلاثة ذكور، في قرية صغيرة تقع في أعالي جبال السروات بمنطقة الباحة بالمملكة العربية السعودية. كانت حياتنا بسيطة وسعيدة، لا يكدر صفوها شيء يُذكر، إلا بعض المنغصات الطفيفة التي تصادف جميع الأطفال في سائر الأسر. كانت هذه المناوشات، التي تنشأ غالبًا بين الوالد والوالدة، تنتهي بعقد هدنة هشة، حيث تعود الصدامات بين الأطراف المتنازعة بعد فترة وجيزة، مما يعكس طبيعة العلاقات الأسرية المعقدة.

عندما بلغت سن السابعة، التحقت بمدرسة القرية، مقتفيًا أثر أشقائي الذكور الذين يكبرونني في العمر. في المدرسة، كانت المنافسة واضحة، ولكنها ليست فقط في الدراسة، بل في كافة مناشط الحياة اليومية. كنا نملك قطيعًا من الأغنام ولفيفًا من الثيران والأبقار، مما يعكس نمط الحياة الزراعية التقليدية. هذه الحياة كانت مليئة بالتحديات، حيث كنا نعمل معًا في فلاحة الأرض، وجمع المحاصيل، واستخدام الثيران في عملية الدياس، مما يبرز أهمية التعاون كقيمة أساسية في تنشئتنا.

إحدى ذكرياتي العميقة تتعلق بحادثة مؤلمة، يمكن اختصارها في قيام ثورنا، المدعو حبيش، بغرز قرنيه في جسد أختي الكبرى بسبب لون ملابسها الحمراء. هذه الواقعة لم تكن مجرد حادث عابر، بل كانت نقطة تحول في فهمنا للقلق والخوف. أظهر رد فعل أحد إخوتي، الذي اندفع في محاولة للانتقام من الثور، كيف يمكن للعواطف أن تتسبب في اتخاذ قرارات متهورة. وأظهرت نتائج تلك المواجهة، التي أدت إلى إصابته بجروح بالغة، عدم تكافؤ النزال بين الإنسان والحيوان، مما يسلط الضوء على الفطرة البشرية القابلة للخطأ.

هذا الحادث كان له تأثير عميق على فطنتنا، وهذا يتفق مع ما قاله الفيلسوف الألماني نيتشه: “ما لا يقتلني يجعلني أقوى”. كانت هذه التجربة درسا قاسياً لنا جميعا وليس لأخي بمفرده في تقدير المخاطر، وأهمية التفكير العقلاني قبل الإقدام والتصرف بشكل خاطي. ولعل ما حدث يعكس طبيعة الطفولة التي تتسم بالبراءة، لكنها تحمل في طياتها إمكانية نمو الخبرات بشكل متسارع في مواقف الألم، حيث إن تحديات الطفولة ليست سوى دروس مبكرة في مدرسة الحياة، نتعلم من خلالها أن الألم والنمو يسيران جنبًا إلى جنب.

أما وسائل الترفيه المتاحة لنا، فعلى الرغم من تواضعها، إلا أنها كانت غنية بالمعاني، وقد تنوعت ما بين رياضات بدنية مثل كرة الطائرة وكرة القدم وممارسة السباحة في البرك والآبار المنتشرة في المحيط الذي نعيش فيه، إلى جانب ألعاب تقليدية كـ “الزقطة” والغميماء، كانت هذه الأنشطة تعكس روح التعاون والتنافس البريء، كما أسهمت في تشكيل هويتنا الاجتماعية، وعززت من الروابط الأسرية والمجتمعية فيما بيننا.

أما ليالي السمر، فقد كانت لحظات تأمل وتجديد روحي مكتمل الأركان. كنا نجتمع للاستماع للروايات وأبيات الشعر، مما يعكس أهمية الثقافة والمعرفة في حياتنا. لقد كان لهذه اللحظات تأثير عميق في تكوين شخصياتنا، وتهيئتنا لتقدير جمال الحكايات وأهمية التواصل، وكما يقول الفيلسوف الأمريكي إيمرسون: “إن الحياة ليست سوى سلسلة من التجارب”.

وتأسيسا على ما سبق، يمكنني القول، إن ذكريات الطفولة هي الجذور التي تُغذي شجرة شخصياتنا، حيث تحدد تجاربنا الأولى كيف ننمو ونتفاعل مع العالم من حولنا. وقياسا على ذلك، فإن مرحلة الطفولة التي عشتها كانت ثرية ومليئة بالتجارب المتنوعة، وقد أسهمت بدورها في تشكيل فهمي للعالم من حولي، حيث إن كل ذكرى، سواء كانت مؤلمة أو مفرحة، كانت درسًا من دروس الحياة لتي ساهمت في بناء كياني الشخصي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى