د. بدرية العنزي تكتب ..الفكر المدرسي وتأثيراته في الميدان الأكاديمي
تعنى كليات التربية في الجامعات بالدراسات العليا التي تستهدف التأسيس العميق للمعرفة التربوية في مخرجاتها من الطلاب والطالبات ، فالأصل أن تستقطب هؤلاء الطلبة في مرحلة مبكرة من أعمارهم بعد مرحلة البكالوريوس ،حيث يبدؤون مسيرتهم للدراسات العليا منذ المرتبة الوظيفية الأولى ” معيد “.
ومع التطور الكمي والنوعي في مؤسسات التعليم العالي ،وتوسع القبول للطلاب والطالبات في برامج الدراسات العليا التحق بهذه البرامج الكثير من العاملين والموظفين في التعليم العام من معلمين ومشرفين تربويين لتطويرهم معرفيا ومهنيا،كونه أحد أهم أدوار الجامعة في خدمة المجتمع ، فترتب على ذلك انتقال عدد كبير منهم من التعليم العام إلى العمل الأكاديمي في الجامعة ،مما أنتج اتجاها فكريا جديدا في النظر للمعرفة التربوية بنفس الطريقة التي اعتادوا عليها في التعليم العام التي بحكم طبيعتها المرحلية تقوم على المواد التعليمية المجزأة التي تقدم للطلبة حسب حاجاتهم التعلمية ومراحل نموهم ، وحاجاتهم لمستويات معينة من المعرفة في كل العلوم المختلفة التي يحتاجونها .
أما طالب الدراسات العليا في هذه المرحلة العمرية ، يتم تشكيل فكره في المعرفة التربوية على أنها معرفة واحدة ، تستهدف الفرد ،وموضوعها الأساسي هو ” الإنسان”.
أبرز خاصية لهذه المعرفة أنها معرفة تكاملية بينية ” وليست متشظية ولا تجزيئية ، لتكون هذه المخرجات من الطلبة في النهاية ،هي التي يوكل لها بناء الفلسفات والنظريات التي يتم وفقها رسم السياسات والخطط والاستراتيجيات التي توجه الممارسات في مؤسسات الميدان التربوي المختلفة،وعلى كل المستويات خاصة في الأسرة والمدرسة وبقية المؤسسات الأخرى .
وتتوحد كل العلوم التربوية في المجتمع المسلم في إطارها الفكري العام ومنطلقها الأساسي الموحد في النظر للكون والوجود والحياة ، والمصدرية الربانية الواحدة في المعرفة ..
فهي في ذلك تماما مثل المعرفة في العلم الطبيعي ،أو المعرفة العلمية هي أيضا تكاملية فيما بينها والبينية فيما بينها أكثر تداخلا في كل العلوم التي تندرج تحت مفهوم “العلوم الطبيعية “.
فلا يمكن أن يُتصور إطلاقا عزل العلوم التربوية عن هذا الإطار أو فصلها عنه ،ومن هذا المنطلق جاءت مسألة ربط العلوم التربوية بمرجعيتها مما نشأ عنه فكرة إنشاء ” أقسام التربية الإسلامية أوأصول التربية الإسلامية أو مسار التربية الإسلامية ” في كليات التربية في بعض الجامعات السعودية ، وهو في الأساس انبثق من إشكالية غربلة علوم التربية وأصولها وفروعها الأخرى كالإدارة التربوية والمناهج وطرق التدريس والتربية الخاصة وغيرها ، من تأثير النظريات الغربية التي تستند على أطر فكرية ومرجعية قد لاتتناسب في بعض معطياتها العلمية تماما مع الإطار العام لعلوم التربية لدينا ، فهي إعادة صياغة لهذه العلوم في ضوء مصدريتنا المعرفية ..
فأصول التربية ينبثق من الأسس المصدرية المعرفية في التربية الإسلامية ، والإدارة التربوية تنبثق من الأسس المصدرية المعرفية في التربية الإسلامية ، والمناهج وطرق التدريس تنبثق من الأسس المصدرية المعرفية في التربية الإسلامية، وتتحد كلها جميعا مع التربية الإسلامية في مجالات التناول المعرفي والعلمي في كل المجالات الفلسفية والنظرية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتاريخية وغيرها وقس على ذلك بقية علوم التربية .
والسؤال الذي يستند عليه القائلون بالتجزيئية والفصل بين أجزاء هذا العلم ،والحجة التي يركنون عليها هي : ولماذا قسمت كلية التربية إلى أقسام وتخصصات تربوية ؟
والجواب ببساطة أن للمعرفة التربوية “مداخل ” تحتاج هذه التقسيمات الفرعية التي لاتلغي التلاقي الكلي ولا التكاملي بين جوانب هذه المعرفة ،ولا تلغي حرية عضو هيئة التدريس الباحث أن يبحث في أي مجال تربوي شاء ،مادام متمكنا من سبر أغوار البحث فيه ،لأنه بداهة لابد أن يكون متمكنا من أطراف المعرفة التربوية وكل مجالاتها مادام حاصلا على درجة الدكتوراه في هذا العلم ،ومن ثم ترقى من خلال ماقدمه من نتاج علمي تربوي حصل به على ترقيات ورتب علمية ساهم في فهم أوسع وأعمق لهذه المعرفة، وعودا على جواب السؤال المطروح : وعلى صفة الإجمال عندما يراد مثلا تطوير نوع من الاختبارات في أي مرحلة تعليمية حتى في الدراسات العليا ،يصبح الباحث التربوي في قسم تربوي أمام ثلاتة مداخل للبحث في هذا الموضوع :
أحدهما ينتمي إلى تخصص القياس والتقويم ،وهذا عندما يدرس الاختبار من النواحي الفنية التي تتعلق بتحليل بنوده والتعرف على مدى صدقها وثباتها ومؤشرات ذلك ،كدراسات الصعوبة والسهولة والخلو من التحيز ونحو ذلك .
وثانيهما :أنه ينتمي إلى المناهج وطرق التدريس وذلك حينما يتعلق الأمر بالتعرف على مدى ارتباطها بأهداف الاختبار في المرحلة المراد دراستها ومستويات أهدافها وكذلك التخطيط لها من هذه الزاوية.
والثالث :يمكن أن ينتمي تطوير هذا الاختبارغلى أصول التربية وذلك حينما يتعلق الأمر بأسس تطوير الاختبارات وفلسفتها ونحو ذلك ، بما يجيب به الباحث على سؤال : لماذا الاختبارت من هذا النوع في المرحلة التعليمية المراد بحث تطوير الاختبارات فيها .
فإن كان لايجيد البحث إلا فيما وصل إليه فهمه وإدراكه في القياس والتقويم فيبحثه من هذه الزاوية لتوارد معلومات كافية لديه عن القياس والتقويم من خلال دراسته فيه وميله نحو البحث فيه يمكن أن يستند عليها في بحثه ليقدم بحثا علميا مفيدا من خلال استيعابه لهذا المدخل أكثر من غيره ،وعلى ذلك قس المدخل الثاني والثالث ،وله الاقتصار على هذه المداخل .
أما إن كان متمكنا بجدارة من البحث في المداخل الثلاث فهو الباحث التربوي الذي في الأصل تهدف كليات التربية إلى إعداده ، ليسهم في تطوير حقيقي للمعرفة التربوية .
ولكن الواقع الحاصل ،عندما التحق في الدراسات العليا أو انتقل إلى الوسط الأكاديمي من لم يستوعب هذا الهدف ،اعتقد أن هذا التقسيم وهذه التجزيئية مطلب لابد من تحقيقه ! ،بمعنى انعكس فهمه الخاطيء على ممارساته البحثية والتعليمية وفي اللجان العلمية والتدريس وغيرها ، والأخطر من ذلك كله نقل هذا المفهوم التجزيئي الخاطيء إلى طلاب الدراسات العليا ،وإقناعهم به ،بل والحيلولة بينهم وبين أفكارهم العلمية الخلاقة التي يتقدمون بها للماجستير والدكتوراه عندما يكون أحد هؤلاء في اللجان العليمة بهذه الحجة التي لاتستند على أي دليل عقلي ولا منطقي .!
إننا عندما نفهم هذا التقسيم للأقسام بطريقة فجة أو طريقة تنظيمية وإدارية فنية ، فنحن في هذه الحال ، نرجع علوم التربية للإشكالية الأساسية التي من أجلها وجدت أقسام التربية الإسلامية، ونعود من جديد لمحاولة عزلها عن مصدريتها الربانية المعرفية سواء على مستوى البحث والتنظير أو على مستوى الممارسة التربوية التي توجهها تلك النظرية ، إما عن جهل أو عن قصد لأهداف أخرى لاترقى لفكر ينتسب للأكاديميا أو يكون جزءا منه .
ولا يعني هذا التقسيم احتكار المعرفة التربوية ، والبحث العلمي التربوي ،في قسم دون آخر ، لدرجة يصل فيها الأمر إلى تستطيح مزري لفهم المعرفة التربوية وتكامليتها مما انعكس على الأبحاث التربوية وبروز ظواهر غريبة كالنقاش حول مدى انتمائها للقسم التربوي -وأحيانا في قسم تربوي واحد !- ،فهم في النهاية متخصصون في التربية بوصفها علم تكاملي وفي أي مجال من مجالات التربية ،حتى وصل الأمر إلى محاولة تقنين هذا أو رسمنة الحيلولة بين مايريد طرقه أعضاء هيئة التدريس المتخصصين أصلا في التربية بشكل عام ،مهما كانت تخصصاتهم التربوية الدقيقة في الأقسام العلمية والأكاديمية وإيجاد العوائق من خلال تطويع اللوائح التي تعطي صلاحيات محددة للأقسام العلمية تحت مبررات غير منطقية كالادعاء بأن هذا من باب الارتقاء بالعمل العلمي ،بينما هو في الحقيقة قتل للإبداع في البحث العلمي التربوي وتطويره ومحاولة لاحتكار موضوعاته المهمة في فئات ضيقة قد لاتسهم تلك الفئات أصلا في تطويره ولا الإبداع فيه لعوامل عدة من أخطرها قناعة هذه الفئة بأن المعرفة التربوية متشظية ومختلفة من تخصص تربوي لآخر،في الوقت الذي لابد أن يكون من أهم أسس فهمهم لهذه المعرفة أنها تكاملية شمولية ،ولايمكن تطويرها ولا الإبداع فيها عندما يغيب عنهم استيعاب ذلك وإدراكه، .
علم التربية في أساسه علم بيني ، مهما كانت وجهة نظر بعض الأكاديمين التربويين ،ومن المعلوم أن وجهات النظر قابلة للعرض ولكنها غير قابلة للفرض أصلا ، فكيف يظن أنه يترتب على وجهات النظر فكرة الإلزامية بطرق أو بحث موضوعات محددة حتى على طلاب الدراسات العليا الذين مازالوا في مرحلة الدراسة ،فكيف بعضو هيئة تدريس قد تجاوز كل هذه الإملاءات من وجهات النظر ،وله الحرية أن يبحث كما يرغب في أي مجال من مجالات التربية ،سواء كانت هذه الأبحاث التي يتقدم لها في مساره الدقيق أم في التربية بشكل عام ، فهو في النهاية عضو ينتمي لكلية التربية ، لأن محاولة الفصل هذه ستؤدي إلى تحويل الأبحاث التربوية إلى كتابات سطحية جدا لاتصلح حتى للقراءة التعليمية البسيطة ،إن عضو هيئة التدريس المتخصص في التربية عندما ينشر إنتاجا علميا فله الحرية الكاملة أن يطرق الأبحاث العلمية التربوية التي يميل لها وتبرز فيها مهارته في المنهجية في كتابة البحث العلمي ،ونوعية الموضوعات التي يطرقها مادامت تقدم المفيد للميدان التربوي على المستوى المعرفي والتطبيقي .
وحتى من يرون بالاختلاف والفصل المعرفي في مجال البحث العلمي في أقسام التربية ، ستجد في ابحاثهم التداخلات والتقاطعات ولن يستطيعوا غير ذلك ،وأبحاثهم هي تقدم لهم الدليل في عدم قدرتهم على الفصل التام في الموضوعات التربوية ، وهذا أمر طبيعي ، بحكم طبيعة هذه المعرفة..
أحيانا يدخل على الأكاديميا الجامعية ، بعض – وليس كل – من قضوا سنوات عدة معلمين في التعليم العام ، واعتادت عقولهم على المواد المفصولة ، وهذا أمر ضروري في مرحلة التعليم العام ، لأن المعرفة بنيت فيه مجزأة لمراعاتها خصائص نمو الطلاب ، فهو تراعي الانتقال بالطالب من السهل إلى الصعب ، ومن البسيط إلى المركب ، ولا ينطبق هذا المفهوم ، أو هذه التجزيئية في الدراسات العليا التربوية في الجامعة ، لكنهم ينقلون بانتقالهم للجامعة هذا الفكر المدرسي ، ويحاولون إنزال هذه التخصصية أو التجزيئية بنفس المفهوم السابق لديهم ، على الأقسام التربوية ، وهذا سيتولد عنه إشكاليات كبرى في كليات التربية .
من أهمها : فصل المعرفة التربوية من جديد عن مصدريتها المعرفية ، قياس المعرفة التربوية والتي تعتبر علما واحدا متكاملا وبينيا مع بقية العلوم فكيف بداخل العلم نفسه ،قياسها على المواد المختلفة المفصولة في التعليم العام بحكم اختلافها فعلا لانتمائها لعلوم مختلفة يعطى للطالب حدا مناسبا منها حسب عمره وصفه الدراسي ، وهذا لايصح تطبيقه على المعرفة التربوية في الدراسات العليا ، ومنها اعتقاد احتكار المعرفة التربوية ومحاولة الوقوف أمام الباحثين التربويين الذين يطمحون في تطوير البحث التربوي ،ومن صور ذلك استخدام الصلاحيات المتمثلة في الرتب العلمية ،أو صلاحيات مجالس الأقسام في إيجاد العوائق في طريق هذه الأبحاث المفيدة في مجالها ، بنفس الطريفة التي تطبق على احتكار السلع المادية !
لقد أمضت أقسام التربية لسنوات طويلة ولم تزل حتى الآن عندما تناقش اللجان البحوث العلمية الأكاديمية ، يحصل أن تستعين اللجنة في قسم تربوي ، بعضو هيئة تدريس من قسم تربوي آخر في نفس الكلية ، أو من كلية تربوية أخرى خارج الجامعة ، كأن تستعين لجنة مناقشة في قسم أصول التربية بعضو في قسم المناهج وطرق التدريس ، كون البحث المقدم للمناقشة يتطلب ذلك ..
وهذا أمر معتاد وليس غريبا بين التخصصات التربوية ، وهو أمر مسلم به لدى المتخصصين في فهم واستيعاب طبيعة المعرفة التربوية، ولازال قائما .
وكتابة هذا المقال جاءت ردا على ظاهرة انتشرت مؤخرا في بعض الأقسام التربوية بسبب وجود أعضاء هيئة تدريس ممن كانوا لسنوات معلمين في التعليم العام وغيرهم،تمثلت هذه الظاهرة في محاولتهم فرض التخصصية الدقيقة وتجزأة المعرفة التربوية في مجال البحث العلمي ،مما أضعف البحث العلمي عند الباحثين ،لإجبارهم في اللجان العلمية على طرق موضوعات لاتناسب شغفهم وميولهم واختيارهم بدعوى التخصصية الدقيقة المتوهمة ، فلا يوجد حقيقة تجزيئية بنفس الحدة التي يحاولون إملاءها في ممارساتهم العلمية والتدريسية والبحثية على المعرفة التربوية .
فلابد من وقفة جادة عندما تختار الجامعات والأقسام التربوية أعضاء هيئة التدريس الذين سيمثلون في المستقبل واقع هذه الأقسام ،وأن يكون اختيارهم وفق معايير صارمة من أهمها عدم تأثرهم بالفكر المدرسي ،الذين سينقلونه معهم إلى الدراسات العليا في مجالات كثيرة أهمها مجال البحث العلمي والتدريس والسمينارات العلمية واللجان العلمية وإضعاف المستوى العلمي والأكاديمي لهذا كله ،فهم سيكون لهم أثر على تلك الأقسام إما بالرفع من مكانتها العلمية والأكاديمية إن تم اختيارهم وفق معايير محددة وصارمة ، أو تدني وضعف مستوى هذه المكانة بسبب مثل هذه الممارسات المستترة والخفية ،لكنها ذات أبعاد مدمرة لمثل هذه التخصصات ذات الطبيعة التكاملية البينية ،إن تم اختيارهم وفق معايير أقل صرامة.