كلمةٌ حول مؤتمر الرياض “الاجتماعي” المواطنُ العربيّ.. لا السياسة
بقلم: عزالدين ميهوبي
يُخطئ من يقول إنّ هناك بلدًا واحدًا كانَ مُهيّئًا لمواجهة وباء كوفيد 19 وتبعاته الصحيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والنفسيّة، فقد مضى عامان على تفشّي هذا الوباء العابر للقارات، إذ أنّهُ أحدث في الّشهور الأولى حالة إرباكٍ واسعة في العالم، وانقسمت الدّول في كيفيّة تعامُلها مع الوضعِ إلى ثلاثة آراء:
– رأيٌ يدعو إلى الغلق الكامل للحدود لمنع انتشار الوباء، رغم ما يُسبّبهُ ذلك من آثار سلبيّة على الوضع الاقتصاديّ والاجتماعي.
– رأيٌ يرى، أنْ لا ضرورة من الغلق، والإبقاء على الوضع كما كان عليه، وليتحمّل المُجتمع آثار الوباء الصحيّة ويتقبّل نتائجه الوخيمة، على أن يُوقفَ النشاط الاقتصادي. بمعنى لا مانع في موتِ النّاس مقابلَ عدم إحالتِهم على البطالة.
– رأيٌ آخر يسعى إلى التوفيق بين الرأيين، وذلك بالتعاطي مع الوباء بحسبِ تأثيرِ الموجات، فإذا اشتدّ وكان تأثيرُه خطيرًا يتمُّ غلقُ الحدود، وإذا تراجعَ يتمّ الفتحُ التدريجيّ، وهو الخيارُ الذي اعتمدتْهُ أكثرُ الدّول.
ولأنّ البلدان العربيّة جزءٌ من منظومة العالم، وأكثرها حيويّة باعتبارها تتوسّط قلبهُ وتمرُّ عبر منافذها اقتصادياتُ العالم، فإنّها كانت عُرضةً لهذا الوباء، وسعى كلّ بلدٍ إلى وضعِ السياسة التي يراها أنجع في الحدّ من تأثيره صحيّا واجتماعيًا واقتصاديًا. بعضُ هذه البلدان اجتهد في ابتكارِ منظومةٍ عازلة للوباء، بالتركيز على إعادة النظر في المؤسسات الصحيّة وتأهيلها للتكفُّل بالعدد الهائل من الحالات، واستباق ذلك بخطّة التعافي المُسبق، مع الحفاظ على الحدّ الأدنى من سير النشاط الاقتصادي، الذي يبقى في كلّ الأحوال مرتبطًا باقتصاديات العالم الأخرى. فإدارة المنظومتين الصحيّة والإقتصاديّة معًا، تهدفُ إلى الحفاظ على التوازن ومنع الإنهيار الذي شهدتهُ بعضُ البلدان التي تفتقر إلى الموارد البشريّة، خاصّة في القطاع الصحيّ، وضبابيّة الرؤية والتوجّه في ظلّ تفاقُم الوضع الوبائي، مما تولّد عنهُ بُروز أزماتٍ حادة أفقدتِ الدّولة البوصلة.
إنّ القراءةَ الأولى لهذه الأزمة الوبائيّة وما انجرّ عنها، كرّستْ السُّلطةَ العلميّة على السُّلطة السياسيّة، إذ أنّ أي قرار تتخذهُ الدّولة يضعُ “الموقفَ الطبيّ والعلميّ” مرجعيّةً له، لأنّ النّجاح في مواجهةِ كوفيد19 لا يتمُّ باتخاذ قرارات سياسيّة أو اقتصاديّة معزولةٍ على “الرأي العلمي” الذي يجعلُ من أولويّة الحفاظ على سلامةِ المُجتمع مسألةً حيويّة، لهذا كانَ الإنعاشُ الإقتصاديّ مرتبطًا بصورة مباشرةٍ بقرار المجالسِ العلميّة التي أنشأتها الدّول لتكونَ بمثابةِ المؤشّر على “حالةِ المُجتمع”.
لجأ كثيرٌ من الدّول إلى أساليب متعدّدة في محاولةٍ لاحتواء أزمةِ الكوفيد، ذلكَ أنّ بعضها، وهو القويّ ماليًا، أن يعمدَ إلى تعويضات كبيرة للشركات والإدارات، منعًا لانهيارِها والتسبّب في أزمة بطالة واسعة، ورصدت دولٌ أخرى موازنات مالية خُصّصت لدفع أجور وعلاوات إضافيّة لأعوان المنظومة الصحيّة تفاديًا لتفكّكها وعجزها عن الصمود أمام شراسة الوباء، وظهر في بلدانٍ كثيرة مصطلحُ “الديمقراطيّة الصحيّة” المتمثّلة في ضرورة إشراك المجتمع المدنيّ أو الأهليّ في إدارةِ أزمة الوباء، خاصّة بعد دخول مرحلة الوقاية والتلقيح، وبروز دعوات لمنع التلقيح الإجباري، باعتبار أنّ في ذلكَ إكراهًا للفرد هو ما يتعارضُ مع مبدإ الحريّة الشخصيّة، لكن يُقابلُه في ذلك مبدأ سلامة المُجتمع. ولم يتوقّف الصراعُ في مسألة “خيار التلقيح” بل، وتحت تأثير النتائج الوخيمة للرّكود الاقتصادي وما نجمَ عنه من آثار مُدمّرة، بدأ منسوبُ الدّعوة إلى ضرورةِ “التّعايُش مع الوباء” دون الغلق وإيقاف الآلة الإقتصاديّة، وهو ما تبنّتهُ عديد الدّول بعد أن نجحت مخابرٌ عديدة في إنتاج لقاحات لرفعِ مناعة النّاس، والحدّ من انتشار الفيروس.
إنّ تجارب الدّول كلُّها مفيدة في وضعِ تصوراتٍ أكثر نجاعة لمواجهةِ مثلُ هذه الحالات الطارئة/الدائمة. وإنّ الوطن العربي الذي يضمُّ 460 نسمة، ويَحوز من المواردِ والمُقدّرات البشريّة والاقتصاديّة ما يؤهّلهُ لأن يكونَ محورًا ذا خصوصيّة في العالم، ففضلاً عن الموارد النفطيّة والزراعيّة والمائيّة وتحكّمُه في المنافذ الحيويّة، يقتضي هذا بلوغَ مستوى من الحوكمة والإدارة الراشدة لهذه المُقدّرات في ظلّ عالمٍ يتغيّرُ بصورة مُذهلةٍ، ولأنّ هناك مُخطّطات تمّ وضعُها على مستوى الجامعة العربيّة منذ نهاية الخمسينيات، تقضي باعتماد مبدأ الإندماج الاقتصادي وتحقيق الإكتفاء والتكامل المطلوب، وهو ما نجحت فيه المجموعة الأوروبيّة، وأخفقت فيه المجموعة العربيّة. فامتحان الوباء، دفعَ بضرورة تقليص مساحة التباعد في الرؤية إلى التقارب في التصوّر الجديد. ولعلّنا نلمسُ في استضافة المملكة العربية السعودية أعمال الدورة الـ (41) لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب، ومؤتمر وزراء التنمية والشؤون الاجتماعية والمجالس الوزارية العربية المعنية بالقطاعات الاجتماعية لوزراء الشؤون الاجتماعية العرب، في الرياض، هذا الأسبوع، ما يؤشّر إلى أنّ هناكَ وعيًا حقيقيا بالتحديّات التي تواجهها المنطقة العربيّة، وحاجتها إلى بناء رؤية براغماتيّة للحفاظ على سلامة المُجتمع العربي، وحسن إدارة مُقدّراته بالإفادة من تجارب عديد الدّول التي نجحت في تخطّي أزمة الوباء بأخفّ الأضرار.
وانطلاقًا من الحكمة العربيّة “إنّما يأكلُ الذّئبُ من الغنم القاصيّة” فإنّ اجتماع الدّول العربيّة في الرياض، هو مراعاة الوضع المتفاوت الذي باتت عليه الدّول العربيّة، حيثُ نجحٌ كثيرٌ منها في تقليصِ آثارِ الوباءِ، بينما فشلتْ دولٌ أخرى لنقص إمكانات المقاومة. لهذا فإنّ اجتماع الرياض لا يكتفي بتقديم عروضٍ سطحيّة عابرة، ولكن “البحث في سبُل التعافي من جائحة كورونا، ودعم الجهود العربية لمواصلة تنفيذ خطة التنمية المستدامة 2030″، وكذا دراسة عدداٍ من الملفات المهمة، التي تمثل أولوية للعمل الاجتماعي التنموي العربي المشترك، وفي مقدمتها التحضير للملف الاجتماعي التنموي للقمة العربية القادمة”. وهذا يعني أنّ هناك عودة حقيقيّة للقضايا المرتبطة بالشأن الإجتماعي للمواطن العربي، بعد أن سيطرتِ “السياسة السياسويّة” طويلاً على العمل العربيّ المُشترك.
إنّ أزمات الفقر والمجاعة والتغيُّر المُناخي وغيرها أصبحَت ظواهر عالميّة، وصارَ هناكَ حديثٌ عن ضرورة التصدّي لها. ولا شكّ أن اجتماع الرياضي لم يغفلْ مناقشة القضايا “ذات الصلة بالفقر المتعدد الأبعاد، والأشخاص ذوي الإعاقة، وكبار السن، وملفات الأسرة والطفولة وغيرها من الموضوعات المهمة التي تمسّ حياة المواطن العربي”، لكلّ هذا فإنّ قمّة الرياضة بتصدّيها لهذه المُعضلات، تكون لامستِ الجُرح، وواجهت حقيقة المُجتمع العربي. وربّ ضارّة نافعة.