فلسفة التعليم في فنلندا: أنموذج للمساواة والإبداع والابتكار
بقلم ــ مرزوق بن علي الزهراني
تعتبر فلسفة التعليم في فنلندا واحدة من أكثر الفلسفات التعليمية نجاحًا في العالم، حيث تستند إلى مبادئ راسخة من المساواة والإبداع والابتكار. إن التعليم في فنلندا لا يقتصر فقط على تقديم المعلومات، بل يتجاوز ذلك ليشمل تطوير القيم الإنسانية وتعزيز التفكير النقدي والإبداع لدى الطلاب. فلسفة التعليم هذه تتجسد في عدة جوانب، بدءًا من كيفية اختيار المعلمين ومرورًا بالمناهج الدراسية وصولاً إلى البيئة التعليمية التي تُعزز من النمو الشامل للطلاب.
يتطلب من المعلمين في فنلندا الحصول على درجة الماجستير في التعليم، مما يضمن امتلاكهم لمعرفة عميقة بالمادة وكذلك أساليب التدريس. ولا يكتفى بهذا بل يُطلب منهم أيضًا الالتحاق بدورات في علم النفس، علم الاجتماع، وعلم الإدارة التربوية واستراتيجيات التعلم، بغية إعدادهم لفهم خصائص واحتياجات الطلاب بشكل كامل. علاوة على ذلك، يخضع المعلمون لتدريبات عملية مكثفة خلال فترة دراستهم، حتى يتمكنوا من تطوير مهاراتهم التعليمية من خلال ما يسمى ربط النظرية بالتطبيق.
كما تتميز عملية اختيار المعلمين في فنلندا بالصرامة والدقة، حيث يُعتبر دخول برامج إعداد المعلمين تنافسيًا للغاية، لذلك يتم تقييم المتقدمين بناءً على معايير عدة تشمل الأداء الأكاديمي، المهارات الاجتماعية، والقدرة على التفكير النقدي. وبعد اجتياز هذه المرحلة، يخضع المعلمون الجدد لعملية تدريب مستمرة تتضمن التوجيه والتقييم من قبل معلمين ذوي خبرة، مما يعزز من مهاراتهم ويضمن تحسن مستوياتهم باستمرار.
تسهم هذه المؤهلات والاختيارات الصارمة في تشكيل بيئة تعليمية متميزة، حيث يتمكن المعلمون من تقديم الدعم الشخصي للطلاب، مما يعزز من قدراتهم الأكاديمية والاجتماعية. ولا يقتصر دور المعلم على مجرد نقل المعرفة، بل يمتد ليشمل توجيه الطلاب وتحفيزهم على التفكير النقدي والاستقلالية في التعلم.
علاوة على ذلك، تعتمد فلسفة التعليم الفنلندية على تقديم مناهج مرنة تركز على الفهم العميق والتطبيق العملي للمفاهيم. ولا تعتمد هذه المناهج على الاختبارات الموحدة كوسيلة للتقييم، بل تستخدم أساليب تقييم متنوعة تعزز من التفكير النقدي والإبداع وكذلك الابتكار. هذا النهج يشجع الطلاب على التفاعل مع المواد الدراسية بشكل أكثر عمقًا، مما يساعدهم على تطوير مهاراتهم بشكل شامل ومستمر.
وتتميز طريقة تصميم المناهج في فنلندا بالمرونة والتكامل، حيث تُدمج المواد الدراسية في وحدات تعليمية تشجع على التعلم متعدد التخصصات. كما يُخصص للطلاب عدد حصص يومية يتراوح بين ٤ إلى ٥ ساعات، تشمل فترات راحة منتظمة، مما يساعدهم على الحفاظ على تركيزهم ونشاطهم بشكل كبير.
وعلى الرغم من عدم إعداد الطلاب الفنلنديين لاجتياز الاختبارات العالمية، كما هو الحال في بقية البلدان الأخرى، إلا أنهم يحققون أداءً متميزًا في هذه الاختبارات. ويعود ذلك إلى التركيز على تنمية مهارات التفكير النقدي، الفهم العميق، والقدرة على حل المشكلات لدى الطلاب، مما يمنحهم القدرة على التطبيق العملي للمعرفة في سياقات مختلفة ومتنوعة.
كما يتجلى في فلسفة التعليم الفنلندية أهمية القيم الإنسانية، مثل العدل، والتسامح، حيث تسعى المدارس إلى غرس هذه القيم في نفوس طلابها، مما يعزز من روح التعاون والتفاهم بين الأفراد في المستقبل. كما يعتبر التعليم الشامل أحد الجوانب البارزة في هذا السياق، حيث يتم تقديم الدعم اللازم للطلاب الذين لديهم إعاقات داخل الفصول العادية بمدارس الحي، مما يضمن مبدأ تكافؤ الفرص للجميع.
وتأسيسًا على ما سبق، نجد أن فلسفة التعليم في فنلندا تعتبر أنموذجًا مبتكرًا يجمع بين المساواة، جودة التعليم، ودور المعلم، وذلك عن طريق التركيز على اختيار المعلمين المؤهلين، تقديم المناهج المرنة، وغرس القيم الإنسانية في نفوس الطلاب. ويمكن للدول الأخرى أن تستلهم من هذا النظام آليات اختيار المعلمين، تصميم المناهج المرنة، وكذلك الحرص على غرس القيم الإنسانية في نفوس الطلاب بالطرق الصحيحة متى ما أرادت تحقيق تحسينات ملحوظة في أنظمتها التعليمية.