عام

كل فراغ لا بد أن يأتي من يملؤه

هناك نظرية اجتماعية، أكدت صحتها التجارب الإنسانية، تقول: (كل فراغ في المجتمعات الانسانية لا بد وأن يأتي من يشغله، فلن يبقى فراغا دائما). هذه النظرية تنطبق تمام الانطباق على ظاهرة (التأسلم السياسي) الذي ظهر حينها عندما وجد له فراغا مجتمعيا فشغله.

بدأت هذه الظاهرة في أوائل الثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم، وتحديدا بُعيد حادثة جهيمان المشؤومة، والخطأ في التعامل معها، الأمر الذي كان له دور رئيس في وجودها كظاهرة على الأرض، فالدولة حاربت جهيمان وتطرفه وأبادته شخصيا ومن قام معه، لكنها – للأسف – تماهت مع مطالبه المجتمعية المتشددة، مثل منع الاحتفالات الغنائية، ومنع نشر صور النساء في الدوريات الصحفية، والتضييق على حرية المرأة، ومنع تحركاتها داخل البلاد وخارجها إلا بمحرم، كما ألغيت مناشط حداثية كانت منتشرة حينها لكون بعض المتزمتين يرفضونها، الأمر الذي أحدث (فراغا) هائلا في المجتمع، وانتشر الضجر والملل، فلم يعد السعوديون يعرفون أين يقضون أوقات فراغهم ولا اجازاتهم، رغم ان المجتمع كان حينها مجتمعا منفتحا نسبيا، خاصة إذا ما قارناه بما حل بنا من تشدد وانغلاق منذ أوائل الثمانينيات.

خطؤنا حينها بالمختصر المفيد سببه أننا قضينا على جهيمان وطغمته قضاء، كنا نظنه – للأسف – مُبرما، لكننا حققنا عمليا ما كان ينادي به على الأرض.

وليس لدي أدنى شك أن ظاهرة الإسلام المسيس وجدت (فراغا) جاهزا يبحث عمّن يملؤه، فانتهز الاخونج، وكذلك السروريون، الفرصة، وعملوا بجهد ومثابرة وتنظيم حركي، على أن يستغلوا أولا التعليم بقسميه العام والجامعي فأدلجوه مناهج ومعلمين، ثم حولوا المساجد إلى دور نشر للتأسلم السياسي، تحت شعار (الدعوة) للإسلام في الظاهر، ولكنها كانت في الباطن عملا حركيا حزبيا منظما، لتكريس التحزب السياسي المتأسلم، واعتبروا أنهم (فقط) من يمثلون الإسلام، أما من خالفهم، فهو إما سلفي (جامي)، يقتدي – كما كانوا يروجون – بفقهاء السلطة غير المستقلين، أو فاسق يجب حربه وكراهيته، والتضييق عليه؛ وهنا تجدر الملاحظة، أن من أهم أسس حركات التأسلم السياسي إلغاء طاعة ولي الأمر من قاموس الاسلام، ومن اضطر من جماعتهم إلى الطاعة، وعقد البيعة، فلا بأس في ذلك من باب (التقيّة)، التي هم أشد جماعة أهل السنة إيمانا بها، وتفعيلا لها على أرض الواقع.

والتأسلم السياسي في المملكة، له في رأيي جناحان، جناح يدعي السلم، وجناح عسكري، يؤمن أن الدعوة لن تفيد، ولا حل إلا بتغيير المنكرات بقوة السلاح. ومن هذا الجناح تحديدا جاء الإرهاب الذي يحاربه العالم من أقصاه إلى أقصاه، والذي تتولى حربه في هذا العهد الزاهر، المملكة بأجهزتها المختلفة، الأمنية، والثقافية، والدبلوماسية؛ وقد ساعدت الثورات والفتن التي عرفها العالم العربي مؤخرا تحت مسمى الربيع العربي، على كشف خطورة التأسلم السياسي، خاصة جماعة الإخوان والسروريين، الذين تولوا الترويج لهذه الثورات، والدعوة إليها، وهو ما جعل كثيراً من الذين كانوا مخدوعين بهم، وبدعوتهم، يتخلون عن مناصرتهم، بل وينضمون بكل قوة وشراسة الى مناوئين لهم.

الملك سلمان كان بهؤلاء الحركيين المتأسلمين خبيرا، يعرفهم، ويتابع تحركاتهم عن كثب، وكثير ما طلبهم في مكتبه حين كان أميرا للعاصمة، وكان – حفظه الله – كثيرا ما يُردد: هؤلاء دعاة سياسة لا دعاة دين وعقيدة.

ما تؤديه الدولة ممثلة في هيئة الترفيه، من مناشط وفعاليات، هو أفضل الحلول (لإشغال) الفضاء المجتمعي، بنشاطات مختلفة، بريئة، وغير مسيسة، طلبا لتحصين النشء، وابعاده عن التطرف والغلو، الذي هو مهد الإرهاب الأول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى