عام

تقديم تجربة التعليم الحقيقية “عن بعد”

سبّب تفشي وباء “كوفيد-19” العديد من التغييرات في حياتنا، وألقى بظلاله على مختلف نواحي أعمالنا واهتماماتنا. ولعلّ التغيير الأبرز جاء في قطاع التعليم، حيث أدى إلى تبني منهجيات تعليمية كانت توصف فيما سبق بمستقبل التعليم، وهي “التعليم عن بعد”.

 

وعلى الرغم من الإجراءات الاحترازية المتبعة وبقاء معظم الناس في منازلهم، لايزال مئات الآلاف من الطلاب حول العالم يواظبون على الاستيقاظ باكراً للالتحاق بصفوفهم الجديدة من منازلهم، ويستمعوا إلى معلميهم عبر الإنترنت، ويجرون الاختبارات، في محاولة منهم للتأقلم مع الواقع الجديد، آملين في العودة إلى حياتهم وصفوفهم الطبيعية في وقت قريب.

 

لكنني أرى مجموعة من التحديات الكبيرة التي تواجه طريقة تطبيق برامج التعليم الإلكتروني حالياً. وأشبهها مجازاً بامتطاء الحصان في لعبة كمبيوتر أو جهاز لوحي ومخصصة للأطفال، إذ أن هذه اللعبة لا تمنحهم تجربة الفروسية الحقيقية. فامتطاء الحصان في الواقع هو التجربة الحقيقية. وعلى نحو مشابه، فإن التعليم عن بعد بالشكل الحالي لا يقدم التجربة المأمولة،لكنالصفوف الدراسية هي التجربة الحقيقية وستكون كذلك دائماً.

 

ومع ذلك، وفي ضوء الحقيقة الجديدة، لابد لنا من فتح أعيننا على الإمكانات والقدرات الواسعة لمنهجية التعليم القائمة على التقنيات الحديثة، ومواءمة سبل تقديم التعليم الجديدة عبر برامج التعليم الأصيلة عبر الإنترنت لضمان اكتساب الأطفال “تجارب حقيقية” وليس مجرد محاكاة للصفوف التقليدية عبر برامج التعليم الإلكتروني، والابتعاد عن التمسك بما عرفناه سابقاً من نظم التعليم.

 

إذاً، لابد لنا من التساؤل، ما هي التحديات التي تواجه أسلوب التعليم الجديد؟ إن الإجابة من وجهة نظر الطلاب هي أن الشكل الحالي للتعليم عن بعد لا يناسب جميع الأعمار؛ وبخلاف الطلاب الأكبر سناً، الذين يعتبرون متمرسين أكثر في بيئات التعلم عبر الإنترنت، يشعر الطلاب الأصغر، لاسيما الذين يتلمسون خطواتهم في المراحل التعليمية الأولى، بعدم الارتياح وتواجههم تحديات واضحة.

 

ومن جانب آخر، فإن العلاقة التي تجمع المعلمين بطلابهم والتي تمثل أحد المقوّمات الرئيسية لتقديم تعليم عالي الجودة، انخفضت معدلات التفاعل فيها مع اقتصار التواصل على التحدث بالصوت، وفي أحسن الأحوال مع الصورة، عبر الإنترنت. ويزداد حجم هذا التحدي عند إدراك أن الاتصال عالي السرعة بالإنترنت وتقنيات التواصل السلسة ليست في متناول جميع الطلاب. 

 

قرأت مؤخراً تقريراً تم نشره في مجلة “هارفارد بزنس ريفيو” أشار إلى أن “التعليم عبر الإنترنت يزيد من الفجوة الرقمية؛ إذ يمتلك الطلاب الأغنياء أحدث أجهزة الحاسب المحمولة، وأسرع اتصال بالإنترنت وأكثر شبكاته اللاسلكية استقراراً، علاوة على الأجهزة الصوتية والكاميرات والتقنيات الأخرى الأكثر تطوراً”.

 

ثمّة أيضاً عوامل أخرى تؤثر بشكل كبير على غرار مساحة الدراسة في المنزل، لاسيما وأنه ليست جميع العائلات قادرة على تأمين غرفة مخصصة للدراسة وبيئة في غاية الهدوء للتعلم. ويتعرض الكثير من الطلاب لعوامل تشتت انتباههم، بدءاً من الأشقاء إلى المسائل المنزلية الأخرى، والتي تؤثر بطبيعة الحال على كفاءة تعلمهم. كما أنهم منعزلون على أنفسهمبنسبة كبيرةمع أدنى معدلات التفاعل مع أقرانهم، مما يعيق تطور شخصياتهم، إذ أن هذا التطور يتطلب بناء علاقات شخصية.

 

وواجه المعلمون والأساتذة ومزودو خدمات التعليم تحديات جمة بسبب التعليم عن بعد، فهوليس بتلك البساطة التي قد يعتقد بها البعض. فقد باتوا بحاجة للمزيد من الاستعدادات، وازدادت الأعباء الملقاة على كاهلهم، نظراً للجهود التي يبذلونهاللتعويض عن مستويات التفاعل المرتفعة مع الطلاب التي اعتادوا عليها في الصفوف الاعتيادية. كما أنه لا توجد أي طريقة تضمن للمعلمين التزام الطلاب بالتعليم الذي يقدمونه عبر المحاضرات المسجلة (وهو أسلوب يتبعه العديد من المعلمين عبر فيديوهات يوتيوب). كما أن تنظيم صفوف افتراضية هو أمر يستنزف الوقت، في حين أن استيعاب مجموعة أكبر من الطلاب يسبب مجموعة من التحديات العملية الأخرى.

 

إن الاستماع إلى أولياء الأمور والأصدقاء، وتقييم التقدم الذي يحرزه الطلاب هو أمر شاق بنفس القدر، لأن العديد من الطلاب لا يأخذون التعلم عن بعد على محمل الجد، ناهيك عن طلبهم مساعدة أفرادأسرهم في بعض الأحيانلأداء المهام والاختبارات الموكلة إليهم. وتتأثر أيضاً جودة التعليم نظراً لعدم وجود طريقة فعّالةلخروج المعلمين عن النص، وتقديم شروحات مستفيضةحول الموضوع التعليمي بأسلوب أفضل، وغالباً ما تكون التفسيرات مرتجلة، علاوة على غياب أي طريقة لمعرفة فيما إذا كان الطلاب في كامل تركيزهم أم مشتتي الذهن. ولربما يشعرون بالنعاس، أو الحيرة أو ببساطة لا يبدون أي اهتمام في الأصل، فلا يوجد في متناول المعلمين طريقة لرصد ذلك.

 

إن أولياء الأمور ليسوا بمعزل عن هذه القضية، فهم يحتاجون إلى متابعة أطفالهم أكثر، وباتت مهمتهم هذه أكثر أهمية من أي وقت مضى لضمان استمرار أطفالهم بتلقي التعليم بأفضل شكل ممكن، والتزامهم بحضور صفوفهم وتركيزهم على تعليمهم. وبما أن معظم الناس يزاولون أعمالهم من منزلهم في الوقت الراهن، فإن هذه المهام اتجاه أولادهم ستثقل كاهلهم بلا أدنى شك مع سعيهم لأداء مهامهم ومسؤولياتهم المهنية الأخرى. ولا يمكن تجاهل قضية رئيسية تتمثل في تكلفة إنشاء البنية التحتية المناسبة للتعليم عن بعد.

 

أما آخر الجوانب التي يجب التطرق إليها، فهي تخص مزودي خدمات التعليم، والذين تستوجب منهم الظروف الراهنة الاستثمار أكثر في التقنيات الحديثة التي ترتبط بأهداف أعمالهم وتقدم القيمة المنشودة لبرامج التعليم عن بعد.

 

أرى في التقنيات الحديثة حلاً فعّالاً يعالج المخاوف التي تراود جميع الأطراف المعنية الرئيسية. لذلك فإن إعادة النظر في مشهد التعلم عن بعد والتركيز على تقديم قيمة واضحة وتجارب عملية للطلاب، هو ضرورة استراتيجية لتلك البرامج لتحقيق النجاح على المدى الطويل.

 

هذا ما يمكننا وصفه بالمنهجية الشاملة، والتي برزت في “برنامج إتاحة الوصول للمدارس من صحيفة فاينانشال تايمز”، حيث نظمت الصحيفة بالتعاون مع البنك الدولي مسابقة تطلب من الطلاب التفكير ملياً في أسلوب جديد للتعليم. وفي حين أن معظم الطلاب اقترحوا استخدام التقنيات الحديثة للمساعدة في تمكين الطلاب من التواصل مع المفكرين وإثراء أفكارهم، برزت العديد من التعليقات التي تدعو إلى تلبية الحاجة “للتعلم الذاتي”، والتشجيع على التفكير باستقلالية، والدراسة من خلال تأسيس المشاريع وتطبيقها بشكل عملي.

 

بقلم: شادي بخور، رئيس الوحدة التجارية في “كانون الشرق الأوسط”، والمدير العام في “كانون السعودية”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى