صراع سداد ديون بـ 11 تريليون يورو يلوح في أوروبا
لم تكن الفترة الممتدة منذ بداية العام الجاري حتى اليوم مثالية بالنسبة لاقتصاد منطقة اليورو، إذ أدى الارتفاع في أعداد الإصابات بفيروس كورونا إلى استمرار سياسات الإغلاق، أو تبني سياسات جديدة متشددة لمواجهة الوباء.
وأضعف الإغلاق النشاط الاقتصادي وإيجاد توقعات بأن الربع الأول من هذا العام لن تكون أغلب مؤشراته الاقتصادية إيجابية، لهذا يرجح أن يستغرق تعافي اقتصاد منطقة اليورو وقتا أطول مما توقعه معظم الخبراء، وربما يتأخر التعافي حتى تنجح حكومات ودول المنطقة الـ19 في السيطرة على الفيروس أو أن تبلغ معدلات التطعيم باللقاحات مستويات آمنة تسمح بإعادة استئناف النشاط الاقتصادي.
ويمكن القول عند تقييم أداء اقتصادات دول منطقة اليورو بأنه أداء متباينا إلى حد كبير، فوفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كان الاقتصاد الإسباني الأكثر تضررا العام الماضي، وتقلص الناتج المحلي الإجمالي بنحو 12 في المائة تقريبا، أما في فرنسا وإيطاليا، فإن نسبة التراجع الاقتصادي بلغت 9.1 في المائة، بينما شهدت ألمانيا انكماشا 5.5 في المائة.
ويرجع التباين الملحوظ إلى عدة عوامل، فقد تضررت بعض الدول مثل إسبانيا وإيطاليا من الوباء أكثر من الدول الأخرى، ونتيجة ذلك دخلت في عملية إغلاق أطول وأكثر صرامة في الموجة الأولى، كما لعبت العوامل القطاعية دورا مهما أيضا، إذ عانت الدول التي تعتمد على السياحة أكثر من غيرها، بينما كانت الدول الصناعية مثل ألمانيا أقل تضررا.
استطلعت “الاقتصادية” آراء عدد من الخبراء الاقتصاديين حول اقتصاد منطقة اليورو، وأبرز التحديات، التي ستواجهها المنطقة في 2021، وهل يمكن لتلك التحديات أن تعيد تشكيل منطقة اليورو من جديد؟. ربما تكون نقطة الإجماع بين الخبراءـ الذين التقتهم “الاقتصادية”، مبنية على أنه أيا كان مستوى الأداء الاقتصادي لمنطقة اليورو خلال هذا العام، فإن قضية الديون ستمثل التحدي الأبرز لمعظم إن لم يكن جميع حكومات المنطقة بلا استثناء.
ويعتقد ألبرت سكوت الاستشاري في عدد من بيوت الخبرة الاقتصادية من بينها شركة كابيتال إيكونميكس أن إرث فيروس كورونا وتأثيره في المالية العامة لأوروبا سيستمر لفترة طويلة حتى بعد زوال الوباء، مشيرا إلى أن تفشي فيروس كورونا والأعداد الضخمة للإصابات والضحايا أجبرت دول اليورو على التخلي عن قيود الإنفاق والاستدانة، ما سيجعلها تصارع هي وغيرها من الاقتصادات المتقدمة أزمة مديونية ثقيلة خلال هذا العام وعدد من الأعوام المقبلة.
ويقول سكوت “وباء كورونا أدى إلى زيادة الديون إلى أكثر من 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في كثير من دول منطقة اليورو، ويقترب إجمالي ديون المنطقة من 11 تريليون يورو، ودفع هذا الوضع بالمفوضية الأوروبية ولأول مرة إلى الاقتراض من الأسواق عبر صندوق التعافي بقيمة 750 مليار يورو، لتقديم المنح والقروض للدول الأعضاء”.
ويعد إلبرت سكوت أنه بمجرد أن تهدأ عاصفة كورونا، فإن منطقة اليورو ستشهد صراعا حادا حول كيفية سداد ديونها، فرفع الضرائب سيضع ضغوطا معيشية على السكان، وقد يعرقل الانتعاش الاقتصادي نسبيا، كما أن القواعد المالية للاتحاد الأوروبي، التي تطلب من الحكومات إبقاء العجز المالي أقل من 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي والدين الإجمالي أقل من 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، قد تم تعليقها منذ تفشي الوباء.
ولم تعد هدفا واقعيا في ظل المعدلات الراهنة للمديونية، ومن ثم، فإن تنشيطها بمجرد انتهاء الأزمة سيفجر أزمة بين دول العملة الأوروبية الموحدة، خاصة مع تغير القيادة السياسية في ألمانيا ورحيل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بنهاية العام عن منصبها، وسيتمحور النزاع بين الألمان والهولنديين من جانب، الذين سيطالبون بسياسات اقتصادية صارمة والفرنسيين والإيطاليين واليونانيين، الذين سيطالبون بتدابير متدرجة ومرنة للتعامل مع أزمة المديونية.
القلق من تفاقم أزمة الديون في منطقة اليورو، لم يكن التحدي الوحيد الذي أشار إليه الخبراء، إذ يعتقد الكثيرون أن الأوضاع قد تكون ضبابية، خاصة في الربع الأخير من هذا العام، وذلك مع رحيل المستشارة الألمانية عن سدة السلطة بعد 15 عاما قادت فيها أكبر اقتصاد أوروبي.
وتقول لـ”لاقتصادية” إيمي ميركي أستاذة الاقتصاد الكلي في جامعة كامبريدج “يعد تشكيل الحكومة الألمانية بعد رحيل أنجيلا ميركل أمرا حاسما ليس فقط لألمانيا، بل لمنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، إذ يتوقع أن تبتعد ألمانيا عن الاتجاهات الوسطية، التي تبنتها ميركل وأن تتبنى مواقف اقتصادية أكثر محافظة، وهذا سينعكس على أوروبا ككل”.
وتضيف بالطبع سيواصل الاقتصاد الألماني الحفاظ على مكانته كأقوى اقتصاد أوروبي، وسيقوم بلعب دور القاطرة للاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، لكنه سيفقد كثيرا من ديناميكيته، نتيجة الضغوط التراكمية خلال 2020، يضاف لذلك أنه إذا كانت القيادة الألمانية الجديدة أكثر طموحا تجاه التكامل الأوروبي، فيمكن أن يشهد الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو مزيدا من الانقسام الداخلي، في ظل معارضة عديد من التيارات السياسية اليمنية لتعزيز التكامل الأوروبي.
ولا ينكر أريك كابلدي الخبير في الاقتصاد الأوروبي والباحث في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أهمية التغيرات السياسية في ألمانيا في تحديد مسار الاقتصاد الأوروبي عامة، وفي منطقة اليورو على وجه التحديد هذا العام، ويصف ذلك بهزة في القلب باعتبار أن ألمانيا هي قلب أوروبا النابض، لكنه يرى أن المؤسسات الألمانية راسخة، والاقتصاد الألماني قادر على امتصاص قدر كبير من الهزات، التي قد يتعرض لها بأقل درجة من الخسائر، ومن ثم فإنه يرى أن أزمة أوروبا لا تكمن في القلب وإنما تكمن في “الأطراف”.
ويضيف كابلدي “الأطراف الأوروبية هي التي تعاني بالفعل أزمة اقتصادية حادة، وجذور الأزمة تعود إلى مرحلة ما قبل تفشي وباء كورونا، الوباء فاقم الأزمة وزاد من حدتها”.
ويستدرك قائلا “التحدي الأكبر الذي ستواجهه منطقة اليورو هذا العام والأعوام الثلاثة المقبلة ربما يكمن في عدم قدرة القلب “ألمانيا” على مواصلة ضخ مزيد من الدماء الجديدة في شكل مساعدات وقروض واستثمارات مباشرة إلى الدول الأطراف”.
وبالفعل، فإن دائرة الأطراف ليس فقط بالمعنى الجغرافي، وإنما أيضا الاقتصادي باتت تتفاقم في منطقة اليورو، فالتقلبات السياسية في إسبانيا ومستويات الديون المرتفعة تجعل إسبانيا تتجه للانضمام إلى إيطاليا لتحتل معها أسفل جداول الأداء الاقتصادي، فالائتلاف السياسي الحاكم هش، ومعدل البطالة بلغ 16 في المائة، وتفشي الوباء زاد من حدة التوترات القائمة بالفعل بين الحكومة المركزية والأقاليم.
وفي الواقع، فإن محنة منطقة اليورو لا تتجلى في بلد مثلما تجلت في اليونان، فأغلب التوقعات أشارت إلى أن العام الجاري سيكون عام الانتعاش الاقتصادي، خاصة في ظل حكومة مدافعة عن قطاع الأعمال، إلا أن خطط الحكومة اليونانية لزيادة معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية وتقليص الروتين وخفض الضرائب ذهبت أدراج الرياح مع وباء كورونا، الذي وجه ضربة ساحقة لقطاع السياحة.
وعقد الوضع المصرفي وأضعفه جراء ارتفاع القروض المتعثرة، ومع هذا يعتقد ليام سميث الخبير الاستثماري أن تحديات 2021 بالنسبة لمنطقة اليورو لا تنفي أن هناك مجموعة من العوامل يمكنها أن تغير الاتجاه العام أو على الأقل تضعف من قسوة تلك التحديات.
ويقول: على عكس التوقعات القاتمة انتعشت التجارة العالمية بسرعة كبيرة وعادت سلاسل التوريد العالمية بعد أن توقفت في الموجة الأولى من العدوى، والعودة السريعة للتجارة الدولية يدعم اقتصاد منطقة اليورو الموجه للتصدير، ومن ثم يزيد من قدرته على التعامل مع أزمة المديونية.
ووفقا للبيانات الصادرة عن البنك المركزي الأوروبي، فإن التجارة الدولية استغرقت نحو عامين بعد الأزمة المالية 2007- 2008 لتقترب من مستوى ما قبل الأزمة، لكن في الأزمة الحالية تطلب الأمر تسعة أشهر فقط للتعافي.
وفي الواقع، فإن عددا من الخبراء يرى أنه على الرغم من المخاطر الناجمة عن أزمة الديون في منطقة اليورو، والمصاعب الاقتصادية في دول الأطراف، والهزات المحتملة في “القلب”، إلا أن ارتفاع معدلات مدخرات المستهلكين، التي بلغت 19 في المائة العام الماضي مقابل 13 في المائة 2019، وعودة الانتعاش الاقتصادي إلى الصين يمثلان طوق النجاة إلى اقتصادات العملة الأوروبية الموحدة.
كما نجحت الأسر في الدول الـ19 في المنطقة في توفير ما يقدر بـ450 مليار دولار العام الماضي، مقارنة بـ2019، ويتوقع أن يتم ضخ تلك المدخرات مرة أخرى في الاقتصادات الوطنية خلال هذا العام مع انتهاء سياسات الإغلاق، ما يؤدي لتحقيق دفعة كبيرة للإنفاق الاستهلاكي، وبالتالي نمو الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.