عام

صديقي هزاع.. إنتحر ؟!!

في فصل الخريف ومع تساقط أوراق الشجر حيث كنت جالسا مع صديقي هزاع في شرفة منزله، نتحاور، ونتبادل أطراف الحديث، وكان يحدثني:
عن ضيق الرزق، وقلة المال، وضنك الحياة، وكثرت الديون، وإرتفاع الضرائب، وغلاء الأسعار، وبعض المشاكل الأسرية، وعدم الإنجاب، وفشل دراسي لازمه سنوات، وفشل كلوي يعاني من علاجه.

فـقــلـت لـه:
لا تفقد الأمل لعل الله يرفعك بهذه الإبتلاءات درجات أعلى في الدنيا وفي الآخرة، ولا تعتقد أن الدنيا دار السعادة وإنما هي دار شقاء واختبار، وعسى الله أن ييسر لك أمراَ أفضل.
وقدمت له نصيحة وقلت له:
اعبد الله وادعه كما ينبغي، وكما أمرك، وكن مُـتيقن أنه سوف يرزقك ويرفع شأنك كما خلقك ووعدك، ولعل الله يبدل أحوالك كما تتبدل فصول السنة.
وتابعت قائلاً:
ولا تنسى الحديث القدسي القائل: ( أنا عند ظن عبدي بي ….).
وكما قالوا في الأثر: “تفاءلوا بالخير تجدوه “.

وبعد مرور أشهر على هذه الجلسة… وفي إحدى الأيام وأنا أتصفح إحدى الجرائد الرسمية وإذ بي أفاجئ باسم صديقي هزاع في صفحتي الحوادث والوفيات؛ فقد مات منتحراً !!! ومن شدة هول الصدمة، قمت بالاتصال بالجريدة حتى أتأكد من صحة الخبر وكررت عليهم نفس السؤال من الذي انتحر؟
بالفعل كان صديقي هزاع.

آلمني جداّ الخبر ودخلت في حالة اكتئاب وفقدت الصبر والإيمان والأمل.

وبعد مرور عدة أشهر تعافييت من حالة الأكتئاب وهول الصدمة، التي ألمت بي.

فكرت واسترجعت ذكرياتي مع صديقي هزاع، وتطرقت إلى أسباب انتحاره وبعد بحث طويل أيقنت أن صديقي كان ضعيف الإيمان وفاقداُ للأمل وقليل الصبر.

لقد كانت جميع المشاكل الذي ذكرها صديقي في آخر جلسة جلسناها معا هي مشاكل العصر، ومشاكل مُعظم الأشخاص والمجتمعات، حتى أن بعضاَ منها مشاكل بعض الدول.

وبعد بحث وتحري مطول قمت به، وجدت أعزائي القراء:
أن عدد المنتحرين في العالم سنويا حسب منظمة الصحة العالمية مليون منتحر، وقابل للزيادة من عام إلى أخر.

وكانت أسباب انتحارهم موزعة ومتفرقة وجميعها تعود إلى نفس أسباب إنتحار صديقي.

ولكني كنت وما زلت على يقين أن جميع هذه الأسباب تعود إلى نفس سبب واحد وهو فقدان الصبر والإيمان والأمل.

فللأسف كم من مريض فقد الأمل في الشفاء، فتقاعص عن البحث عن علاج له، بعد أن أوشك على إيجاده…
وكم من طالب متعثر في دراسته فقد الأمل في النجاح ولم يمتلك الصبر فأصبح فاشلاً…
وكم من وظيفة أضاعها باحث عن عمل وذلك بسبب ضعف أمله في الحصول عليها…
وكم من شخص تملك الخوف قلبه وعقله فلم يستطيع حل مشاكله وفقد الأمل في مواجهة أمور حياته…
ولزيادة حب الناس للدنيا وحب ملذاتها، فقدنا الإيمان ولم نعد نصبر على ابتلاءاتها.

كيف نفقد الأمل يا سادة وقصص الصبر وقوة الإيمان والأمل من حولنا وفي ماضينا وتاريخنا كثيرة، ودعوني أسرد إليكم القليل من هذه القصص:

فها هو في ظلام البحر وظلام الليل وظلام بطن الحوت لم يفقد الإيمان والأمل من رحمة الله والخروج من ظلماته الثلاث؛ إنه سيدنا يونس عليه السلام….

وها هو يخرج من غيابة البئر وهو صغير، وخرج من سجن طالت مدته، ومن مستضعف في الأرض إلى مسؤول خزينتها ولم يضعف صبره على هذه الإبتلائات ولم يفقد إيمانه في الله للنجاة في جميع مشقات حياته؛ إنه سيدنا يوسف عليه السلام…

ولولا قوة أمله في أن يؤمن قومه لما جلس يدعوهم 950 عاما، إنه سيدنا نوح عليه السلام…

وهذا الشيخ الكبير لم يفقد الأمل في أن يرزقه الله بالذرية، ويدعو الله بعد ما وصل من العمر عتيا، لأجل أن يكرمه بالإنجاب، ويدعوا الله قائلا:
(ربي لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين) سورة الأنبياء
إنه سيدنا زكريا عليه السلام…

ولا أستطيع نسيان صبر ذلك الهرم الذي أحرقت أمواله، وماتت إبله وأغنامه، وخربت أراضيه، وفقد جميع أبنائه، وهجره الأصدقاء والأحبة، وأصيب بأمراض عديدة لثمانية عشرة عاماً،
يا إلهي أي صبرهذا !! وأي إبتلائات تلك!! فقد تعددت الإبتلائات بالأموال والأصدقاء والصحة والأبناء ولم يقول سوى (مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين) سورة الأنبياء… إنه سيدنا أيوب عليه السلام…..

ولقوة إيمانه وأمله في النجاه من بطش قريش لما قال رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) لأبي بكر الصديق وهما في الغار “لا تحزن ان الله معنا”.

و لولا أمله في اضاءة سواد الليل لما اخترع أديسون الإنارة بعد سلسلة طويلة من الصبر والإجتهاد والتجارب الفاشلة قبل نجاح آخر تجربة…

ولتحقيق حلمه وقوة أمله في إيصال الصوت إلى أبعد مدى قام العالم غوليمو ماركوني باختراع المذياع ( الراديو)…

ولقوة إيمان المجتمعات بالتقدم وأملها في التطور لما اخترعت البشرية السيارات والطائرات والقطارات لتحقيق حلم التنقل السريع بين الأماكن، ولا تم إكتشاف العلاج ولا تمت صناعة الأدوية لتحقيق السعادة في الشفاء من الأمراض، ولا تم اختراع الإتصالات والشبكة العنكبوته (الانترنت) لتحقيق طموح البشريه في التواصل السريع…

ولولا أمل المجتمعات في حياة أفضل لما اتفقت الإنسانية على وضع قوانين وأنظمة وضوابط حياتية…

ولو فقدت ألمانيا الأمل لما تحولت من ألمانيا النازية التي تم تدميرها تماما في عام 1945 م (في الحرب العالمية الثانية) إلى ألمانيا الحالية (ألمانيا الديمقراطية)، وكذلك اليابان التي أصبحت في مصافي الدول المتقدمة في وقتنا الحالي بعد ان وصلت إلى مستوى الحضيض بعد الهجوم النووي عليها في عام 1945م.

هل تعلمون يا سادة أنه:
لو فقدت النساء الصبر على تعب الحمل وأوجاع الولادة لما أنجبن الأطفال، ولو فقد الأزواج الصبر على إحتمال مساوئ بعضهما البعض لأصبحت مجتمعاتنا مجتمعات منفصلة وتعج بالمطلقين والمطلقات.

ألم يقولوا في الصبر:
بالصبر تبلغ ما تريد ** وبالتقوى يلين لك الحديد.

ولو فقدت الجيوش الإيمان في كسب الحروب للإستسلمت الدول لأعدائها ولأصبح لدينا أجيال جبانه وضعيفه تخاف من الصعاب وتؤرقها التجارب.

ولو فقدت البشرية الإيمان بالله والصبر على الإبتلاءات لما وعد الله الجنة للمؤمنين والصابرين، ولزادت معدلات الجريمة في مجتمعاتنا، واليأس والإحباط في قلوبنا
ألم يقولوا في الإيمان:
“الإيمان سند العزائم في الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل في الصدور، وسكن النفوس إذا أوحشتها الحياة، وعزاء القلوب إذا نزل الموت أو قربت ايامه”…..

ولو فقدت المجتمعات المؤمنين لما وجدنا شخصا يغيث الملهوف، ولا يعطف على المسكين، ولا يحنو على اليتيم، ولا يساعد عابر السبيل، ولا ينقذ الأرامل، ولا يتصدق على الفقير، ولأصبحنا نعيش في غابة حيوانية، وليست دول ومجتمعات إنسانية.

ولو فقدت المجتمعات الأمل لفقدنا طبيباً بارعاً، ورساماً مبدعاً، وفنانا مبتكرا، وطباخاً ماهراً، وشخصاً مخترعاً، ومذيعاً متألقاً… الخ.

وختاماً، أود أن أذكر المقولة التي تقول:

إذا فقدت المال ضاع منك شيء له قيمة، و إذا فقدت الشرف فقد ضاع منك شيء لا يقدر بثمن، وإذا فقدت الأمل فقد ضاع منك كل شيء.
وذلك لأن المال له قيمة مادية، والشرف له قيمة أخلاقية، والأمل له قيمة روحية.

أرجوكم يا سادة لا تفقدوا الأمل في الحياة، لأن الحياة هي الأمل…
فها هو صديقي هزاع عندما فقد الأمل أعطى لنفسه قرار مفارقة الحياة، وبالفعل فقد فارق الحياة كما أراد… وقتل فؤادي… فؤاد صديقه الذي أحبه.

فلذلك أرجوكم وأرجوكم ومن ثم أرجوكم
أزرعوا الصبر، والإيمان، والأمل في قلوبكم وفي قلوب أبنائكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى