الحداثة في زمن ابن قدامة
ابن قدامة في زمنه عندما استثمر مخرجات المنطق اليوناني في تأسيس منهجه الأصولي في قراءة تراثه، كان أكثر حداثة من «رجل الدين» الحالي
مخرجات رجل الدين لما في التراث، لا تشبه مخرجات عالم الألسنيات المسلم لما في التراث، فعالم الألسنيات لو وجد الفضاء الحر لقراءة التراث لمنحنا معطيات تفتح لنا آفاقاً تأويلية، تعطي خلاصات جديدة تتناسب وعصرنا الحالي دون الحاجة إلى حالة تلفيقية يعيشها رجل الدين الحالي مع قضايا الأصالة والمعاصرة، لتصبح الأصالة حالة من الجمود تقابلها معاصرة تلفيقية، فالتأويل الحداثي الأصيل هو تحول من حال إلى حال، بينما الحداثة المزيفة ـــ إن جاز التعبير ـــ هي تحول من حيلة فقهية إلى أخرى، خوفاً من غلبة المقاصد الإنسانية للقانون الطبيعي على المقاصد الشرعية، متجاهلين اعتراف الإمام الشاطبي بمرجعية الضرورات الخمس للفهم الإنساني في الحضارات السابقة قبل أن يكون للفهم الشرعي، ولهذا فعلم الألسنيات ومدارس الإنثربولوجيا يضيفان معنى جديداً، وما يخيف رجل الدين التقليدي فيهما، ليس إضافة المعنى بقدر كسر الدلالة القديمة التي يشعر بأنه حارسها وإن زعم التجديد فيها، فأقصى ما يفعله هو تخريج الدلالة وفق المعطى القديم دون إطلاق إمكانات النص وفق المدارس الحديثة لفهم الخطاب.
فرجل الدين الآن عندما يطرح نفسه (كرجل دين) يتخلى عن حرية النظر العقلي وفق معطيات الفلسفة الحديثة، ليلتزم بمعطيات المنطق الأرسطي الذي افتتح به ابن قدامه كتابه (روضة الناظر وجنة المناظر) في أصول الفقه، ليظهر لنا بهذا المعنى، أن ابن قدامة في زمنه عندما استثمر مخرجات المنطق اليوناني في تأسيس منهجه الأصولي في قراءة تراثه، كان أكثر حداثة من (رجل الدين) الحالي، الذي يعجز عن قراءة المجلد الخاص بأطروحات ابن تيمية في المنطق والفلسفة والتصوف، ليأخذ من ابن تيمية قشرته السطحية، وفي أحسن حالاته يصبح ابن تيمية سجين القراءة السلفية التي تأبى استنطاق ابن تيمية المنطقي والمتكلم والفيلسوف، فالنص التيمي ـــ نسبة إلى ابن تيمية ـــ يقبل تعدد القراءات، لكن المدرسة السلفية تقتل ـــ معنوياً ـــ القارئ الخارج عن إطار منهجها في تداول النص التيمي، ليبقى ابن تيمية سلفياً بمستوى السطحية التي نراها في المدارس السلفية حولنا، والتي تغرق في شبر ماء من النقاش الفلسفي، بعكس ابن تيمية نفسه، كأنما كانوا تلاميذ غير نجباء، لرجل عاش ظروفاً سياسية لا يمكن لعاقل أن يغفلها، فكيف نقرأ موقفه من الشيعة باعتبار التسهيلات التي رآهم يقدمونها للغزاة على الدولة في زمنه، ما أريد قوله هنا أن فهم الواقع السياسي يخرج ابن تيمية من طائفيته التي ألبسها إياه السلفيون المحدثون، ليجعله وطنياً عروبياً ــــ إذا جاز التعبير ــــ فقد كان يكره أن تنتهك بلاد العرب ويترافع عن ذلك بطريقته، لكنه كرجل دين خفي عليه كثير من دهاليز الجانب السياسي، ليصبح مع الوقت مطارداً من السياسيين أنفسهم، ومن بعض رجال الدين، مع دراسة حالته الاجتماعية في مجال الأسرة والزواج، وانعكاسها على مزاجه الخاص وفق معطيات النقد الحديث دون تبجيل يرفعه عن مقام البشرية.
الحداثة ليست مفاصلة مع التراث على مستوى المعنى المفتوح، ولكنها قطعاً مفاصلة مع التراث على مستوى الدلالة المغلقة، فكل دلالات التراث التي تكلست على لسان رجال الدين عبر مئات السنين من حق الحداثة توجيه السؤال النقدي لها دون أي حالة تبجيلية، أما التراث على مستوى المعنى فيبقى مفتوحاً للتداول الفردي، ليمتح منه المثقف المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي والزرادشتي على حد سواء، فيأخذوا منه كل ما يمنحهم البصيرة والامتلاء الروحي، ففيه عبرة وقصص لذوي الألباب، من كل الملل والنحل.