في تجديد الخطاب الديني
لا يكون التجديد على يد كل من هبّ ودبّ، وليس هو أرضا مشاعا لمن لا يملك علما، ولم يحصّل معرفة، بل هو منوط بأهل الاختصاص من أصحاب العقول الذكية، والنظرات اللماحة
ليس الخطاب الديني هو الوحي المنزل، بل هو التعبير عن ذلك الوحي فهما وسلوكا، ولفظة «الخطاب» لفظة عربية أصيلة، لا داعي لأن آتي بمعناها في المعاجم العربية لوضوحها، وليست مفردة «التجديد» لفظة مبتدَعة، بل ورد فيها الحديث الشهير «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها».
لست أدري كيف استقرّ في كثير من الأذهان أن من يجدد الدين يجب أن يكون فردا! فلفظة «مَن» في الحديث لا تدل بالضرورة على فرد، بل يجوز أن تنطبق على فرد وعلى جماعة معا.
ويُفهَم من الحديث كذلك أن فهم الدين قد يصيبه البِلى والجمود، ولهذا يحتاج إلى إعادة نظر وإلى تجديد، وإلى إعادته إلى الأمر الأوّل، حين بدأ العلماء الكبار بأدوات عصرهم يؤصّلون ابتداء، ويضعون نظريات كانت بالفعل جديدة، في الحديث رواية ودراية، وما يتعلق بهذين من شروط، وفي أصول الفقه، وفي أصول التفسير، وغيرها من علوم الشرع.
لكنّ «أدوات» الفهم تتطور، والمناهج تتجدد وتتغير، وقد أفاد علماء الأمة السابقون من الموجود في عصرهم من مناهج وأدوات، ولم يستنكروا ذلك، ولم يأنفوا منه.
ألم يكتب ابن حزم رسالة في المنطق؟ ألم يعتمد أبوحامد الغزالي على المنطق الصوري (منطق اليونان)، فيدخله في أدوات المسلمين للفهم، بل بلغ إعجابه واعتداده به أن قال في مقدمة كتابه المستصفى: «إن ما لا يحسنه لا ثقة له بعلومه أصلا»؟ ثم ذاع المنطق وشاع، ودخل في العلوم الشرعية كافة. ألم يعتن علماء الأمة بالمنطق الصوري فعدلوه، وصححوا فيه، وألفوا فيه الرسائل القيّمة، والكتب النفيسة، ونظموا فيه المنظومات ليسهل حفظه ثم فهمه؟ ثم لم يقصروا في نقد ما يحتاج إلى النقد منه بعد ذلك، فكتب ابن تيمية -يرحمه الله- رسالته في الرد على المنطقيين؟
ليس تجديد الخطاب الديني ترفا بل ضرورة، لأن الواقع يتبدل، لكن الوحي ثابت، ولا بد من إنزال قطعيات الوحي على الواقع، مع النظر إلى المصالح والمفاسد، والحال والمآل، وفق فقه الممكِن. ومن دون ذلك فالجمود والركود، وحينئذ تكون الأمة هي أخسر الخاسرين.
ولا يكون التجديد على يد كل من هبّ ودبّ، وليس هو أرضا مشاعا لمن لا يملك علما، ولم يحصّل معرفة، بل هو منوط بأهل الاختصاص من أصحاب العقول الذكية، والنظرات اللماحة، القادرين على أن يؤصلوا لنظرياتهم تأصيلا متينا.
لا بد لمن يريد التجديد أن يكون متضلعا من تراثه، عارفا به، ممتلئا منه، أي لا بد من قراءة كتب التراث التي يسميها من لا يعرف قدرها «الكتب الصفراء»، ففي الكتب الصفراء تلك ومضات، وآراء عبقرية جدا، تصلح أن تكون أساسا لتجديد قادم، يستأنس بها الباحث ويحتذي حذوها، ومن يطلع على كتب التاريخ وكتب التراجم وغيرها، يرَ عجبا من شجاعة علمائنا الأوائل، ومن إقدامهم على التجديد، وعلى طرح أفكارهم بقوة تروع الناظر. ولا ينبغي أن يكون الرجوع إلى التراث رجوعا إلى تراث طائفة بعينها من طوائف المسلمين، فتراث جميع الطوائف المسلمة هو تراث الأمة، وفي كل طائفة من طوائف الأمة علماء أجلاء، وفقهاء أفذاذ، آراء حري بالمجدّد الالتفات إليها والإفادة منها، كل في اختصاصه.
وبعد هذا؛ لا بد لمن يروم التجديد من معرفة واقعه معرفة صحيحة، مدركا الحال والمآل، والمصلحة والمفسدة، ناظرا إلى المستقبل القريب والمستقبل البعيد.
ثم لا بد من الإفادة مما ينتجه غير المسلمين من مناهج حديثة، وفلسفة، وإبداعات، كما فعل علماء المسلمين الأوائل مع المنطق الصوري، مع الذكاء في الأخذ، وتمييز الجيد من الرديء، والنافع من الضار، ولن يكون هذا إلا بدراسته دراسة صحيحة، على وفق ما أراده أهله، ثم يأتي بعد هذا دور النقد والتصويب.
وقبل هذا وذاك؛ لا بد من إخلاص النية لله تعالى، وإرادة الخير للأمة ومجتمعاتها، بل للإنسانية كلها، مع توافر الحرية التي تضمن للباحث أن يقدم بحثه غير خائف ولا وجل.
أدري أنها مهمة جليلة، ربما تحتاج إلى عمل مؤسسي يحميه القانون، وإلى تشجيع على البحث والنظر، وإلى توفير الحياة الكريمة لمن يتصدى لهذه المهمة الجليلة، وإزالة العقبات دون تحقيق أهدافها.
تسمع من هنا وهناك رأيا فذا، وتصادف رسالة بُذل فيها جهد كبير، استنتج صاحبها نتائج جديرة بالتأمل، غير أن تلك الجهود كلها جهود فردية، وفي أغلبها غير مدعومة إلا بهمم أصحابها، وبجديتهم وإصرارهم، على الرغم من متطلبات العيش، وكثرة المسؤوليات.
ما أعظم التحديات حقا، غير أن لكل مجتهد نصيبا، والله تعالى يأخذ بأيادي أصحاب النيات الحسنة إلى ما هو خير.