مقالات وكتاب

نقد فلسفي لرؤية السرد الأدبي الحديث

 

“الأدب هو مرآة النفس البشرية، ومتى ما فقد العمق، فقدت الإنسانية معناها.”
— فريدريك نيتشه—

تطرح هذه الرؤية تساؤلات جذرية عن طبيعة السرد الأدبي المعاصر، مُسلطةً الضوء على تناقضات تعاني منها الرواية الحديثة. تبدأ هذه الملاحظات بفرضية أن الروائي، مع كذبه الواضح، يمتلك القدرة على إقناع القارئ. ولكن، هل يمكن لهذا الأمر أن يكون مبررًا للخداع الأدبي المفرط؟ إن تساؤلات من هذا القبيل تدعونا للتأمل في مفهوم الحقيقة في الأدب ودور العقل في تلقي النصوص.

تُثري هذه الرؤية فكرة أن السرد الأدبي، بغض النظر عن طبيعته -فانتازيًّا كان أو واقعيًّا- يجب أن يرتكز على منطق معين، ولو كان هذا المنطق محاطًا بعالم من الخيال. إن تصوير شخصيات تعيش في عزلة سنواتٍ دون طعام أو ماء، في سبيل البحث عن “الكتاب الذي ينقذهم من المصير المجهول الذي ينتظرهم في الخارج”، يدل على فوضى في البناء السردي تتجاوز حدود القبول. إذ كيف يمكن للقارئ، الذي يُفترض به أن يكون شريكًا في هذه الرحلة، أن يستوعب مثل هذا الانفصال عن الواقع؟

تتجاوز هذه الملاحظات حدود النقد الأدبي لتغوص في عمق الفلسفة المعرفية. ذلك أن قبول القارئ للفنتازيا في الأدب يعتمد على قدرته على إيجاد خيوط من المنطق في الأحداث، وعندما تُفقد هذه الخيوط، يُصبح النص غير قابل للتصديق، فيؤثر سلبًا في تجربة القراءة. إن تكرار فكرة “الزمن النسبي” أو “العالم الآخر” لا يُعفي الكتّاب من مسؤوليتهم في بناء سرد متماسك؛ فالفانتازيا، مع كونها مجالًا للحرية الإبداعية، لا تعني الفوضى أو غياب المعنى.

إن السخرية من الأدباء الذين يتلاعبون بعقول القراء، ويعتمدون على تقديم سلاسل ضعيفة من الأحداث، إنما هي نداء للعودة إلى جوهر الأدب. إن الادعاء بالثقافة والأدب يجب أن يكون مترافقًا مع فهم عميق للمسؤولية التي تترتب على هذه الادعاءات، كما إن الفوضى في السرد، وغياب الحبكة، يخلقان شعورًا بالضياع وعدم الانتماء، فيجعل من تجربة القراءة شيئًا أقرب إلى العبث.

تبث هذه الرؤية أيضًا قلقًا عميقًا نحو المستقبل الأدبي، مُشيرةً إلى صعود “النكرات” و”المستعرضين للتفاهات”. إن هذا الازدهار في السطحية إنما هو تهديد حقيقي للقيم الأدبية، ويُلح بتساؤلات عن تأثير الثقافة الاستهلاكية في الممارسة الأدبية، إذ كيف يمكن للمجتمع أن يحترم الأدب إذا كان القائمون عليه يفتقرون إلى العمق والرؤية!

وفي الختام، فإن هذه الرؤية تدعو إلى إعادة التفكير في كيفية تقديم الأدب كوسيلةً للتعبير عن الإنسانية، بدلًا من أن يكون مجرد وسيلة للتسلية أو الهروب من الواقع. يجب أن يكون هناك إقرار بأهمية المنطق، وتسلسل الأحداث، وعمق التجربة الإنسانية في كل نص أدبي. فالأدب في جوهره مرآة تعكس تعقيدات الحياة، ويجب أن يُعبر عنها بطريقة تحترم عقل القارئ، وتتيح له الانخراط في عالم من الأفكار والمشاعر، لا في عالم من السطحية والسماجة والعبث.

بقلم:
مرزوق بن علي الزهراني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى