المحلية

خطيب الحرم المكي: نقْلُ السفارة الأمريكية للقدس “عبث ببرميل بارود”

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن محمد آل طالب، المسلمين بتقوى الله عز وجل والعمل على طاعته واجتناب نواهيه.

وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها في المسجد الحرام اليوم: في قلب كل مسلم من قضية فلسطين جروح دامية، وفي جفن كل مسلم من محنتك عبرات هامية، وله بإسلامه عهد لفلسطين من يوم اختارها الباري للعروج إلى السماء ذات البروج؛ موضحاً أنه إذا كان حب الأوطان من أثر الهواء والتراب، والمآرب التي يقضيها الشباب؛ فإن هوى المسلم لك أن فيك أولى القبلتين، والمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وأنك كنت نهاية المرحلة الأرضية، وبداية المرحلة السماوية، من تلك الرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعوداً، بعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطاً؛ وإليك إليك ترامت همم الفاتحين، وترامت الأينق الذلل بالفاتحين، تحمل الهدى والسلام، وشرائع الإسلام، وتنقل النبوة العامة إلى أرض النبوات الخاصة، وثمار الوحي الجديد إلى منابت الوحي القديم.

وأضاف: المسجد الأقصى والأرض المقدسة وفلسطين وبيت المقدس، أرض النبوات ومسرى الرسول الكريم، وإرث الأمة الخاتمة الذي يسكن قلب كل مسلم، وبقاع باركها الله وبارك ما حولها، أكثر أرض في هذه الدنيا خطا فيها الأنبياء، ما زجت نسماتها أنفاسهم، وأصاخ أفياؤها لتراتيلهم ومناجاتهم، وتبلل ثراها بدمعاتهم ودمائهم، في أوديتها وعلى وهادها دَرَج أكثر الأنبياء، واستقبلت فجاجها وحي الله من السماء؛ مشيراً إلى أنه لا يكاد وادٍ من أوديتها لم يشهد مرور نبي، ولا مرج من مروجها لم يسمع تسبيحة رسول، لو نطقت حجارتها لروت لنا حكاية بعثة، ولو تكلمت جبالها لقصّت علينا مولد رسالة، وكانت الأجيال التي تتعاقب على ثراها لا تخلو من نبي أو أنبياء، وكثيراً ما كان يتوافر عدد من الأنبياء في زمن واحد وربما قرية واحدة من قرى فلسطين؛ فضلاً عن المتألهين والنساك المبثوثين على صعداتها؛ كبث الربيع أفانين الزهر، ومحاريب المتبتلين تلقاها في منحنيات الأودية، وصوامع المتعبدين وبيعهم نائية عن القرى والأبنية، عُبِد الله فيها زمن أطول من أزمان بقية الأرض.

وأردف: الضلال كان في كثير من بقاع الدنيا على هيئة وثنية أو إلحاد؛ فإن الضلال في الشام وبيت المقدس خصوصاً إذا وجد؛ فقد كان تقصيراً في القيام بحق رسالة، أو تحريفاً لمبادئ نبوة، مع بقاء جزء من الحق فيما بين أيديهم من صحائف أو كتب؛ حيث كانت فلسطين هي ميراث النبوات وعهد الرسالات وميلاد الشرائع، أوْلى بها وبخلافتها رسل الله وأتباعهم إلى يوم الدين، وكان من أوائلهم إبراهيم الخليل أبو الأنبياء عليه وعليهم السلام، الذي لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، وكيف يكون ذلك وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده.

وتابع “آل طالب”: الرسول صلى الله عليه وسلم، صلى إلى بيت المقدس بمكة 13 عاماً، وبعد هجرته إلى المدينة صلى 17 شهراً حتى نزل القرآن آمراً بالتوجه إلى المسجد الحرام الذي ارتبط ارتباطاً أزلياً بالمسجد الأقصى؛ فكان الإسراء إليه والمعراج منه، قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}؛ فهو البيت الذي عظّمته الملل وأكرمته الرسل وتُليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل (الزبور، والتوراة، والإنجيل، والقرآن).

وقال: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في بيت المقدس ليلة الإسراء كانت إعلاناً بأن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى البشر، أخذت تمامها على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن آخر صبغة للمسجد الأقصى هي الصبغة الإسلامية؛ فالتصق نسب المسجد الأقصى بهذه الأمة الوارثة.

وأضاف خطيب الحرم المكي: فلسطين لم تكن مجرد أرض دخلت تحت سلطان المسلمين يوماً من الأيام ويمكنها في يوم آخر أن تكون خارجه؛ بل تاريخ وأرض ومقدسات ومعالم هي إرث واجب القبول، متحتم الرعاية، لازم الصون، إنه ليس خياراً يتردد فيه المترددون أو شأنا يتحير فيه المتحيرون فهي آية في الكتاب وستبقى ما بقي الزمان، ولن يستطيع بشر أن يغير هذه الحقيقة.

وأردف: فلسطين وبيت المقدس آلت إلى المسلمين بأيلولة الشرائع لشريعة الإسلام: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه}، آلت تلك المقدسات لأهلها الذين هم ما زالوا متشبثين بها حتى الآن؛ برغم المرارة والأوجاع، آلت بوعود قرآنية وتراتيب إلهية، وقد صدّقت تلك الوعود، وآخرها لم يتحقق بعد، وهو أن الساعة ستقوم وبيت المقدس بأيدي المسلمين.

وتابع: الثابت منذ الفتح وحتى المحشر أن بلاد فلسطين ومدينة القدس بلاد إسلامية عربية، والطارئ والاستثناء هو وقوعها في يد غيرهم، وما مضى من تاريخ أكّد هذه النبوة وصدّق ذلك الوعد، وإنا لمؤمنون وموقنون أن هذا الوعد سيصدق حتى منتهاه، وعليه فكل إرادة وقوة تفرض غير ذلك؛ إنما تُعبث في الدماء وتؤجج العنف والبغضاء، وتحدث شرخاً في الإنسانية وتشوهات في الحضارة، ثم تؤول عاقبة أمرها خسراً.

وقال “آل طالب”: الخطوة التي اتخذت مؤخراً لتكريس احتلال القدس؛ خطوة لن تنتج إلا مزيداً من الكراهية والعنف، وستستنزف كثيراً من الجهود والأموال والأرواح بلا طائل، ومضادة للقرارات الدولية، وهو قرار يثير المسلمين في كل مكان ويسلب الآمال في التوصل إلى حلول عادلة، كما أنه انحياز كبير ضد حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية، وسيزيد المسلمين والعرب إصراراً على التحرير، خصوصاً وأن المقدسيين -ومن ورائهم من المسلمين- مصدّقون بوعود الله التي تَحَقق أكثرها، وما ملوا ولن يملوا، والقدس مفتاح السلام، ومن الذي يكره السلام ولا يريد السلام؛ بل من الذي اعترض في الماضي أن يعيش اليهود والنصارى مع المسلمين في أرض الشام وفلسطين، ومارسوا عباداتهم، وبقيت كنائسهم ومعابدهم، واختلطوا فيها بالمسلمين، وتبادلوا المصالح والمنافع؛ بل وتصاهروا كما كان التاريخ القريب والبعيد، من الذي يكره السلام ولا يريد السلام وقد قدّم العرب مبادراتهم في ذلك وما زالوا؛ ولكن أن تُغتصب أرض وتُهَجّر أسر ويُنفى شعب ويُزَوّر تاريخ ويُعبث بمقدسات وتُغير معالم ويقع ظلم شديد بشعب لا يزال يُسقى المر منذ 70 عاماً؛ فإن ذلك كله عبث ببرميل بارود لا يُدرى متى يبلغ مداه.

وأضاف: الذي يمارَس اليوم هو إحداث صراع ثقافة وحضارة ودين، وتصرف يوقع العالم في حرج وخطر، وينذر بشرّ لا يعلم مداه إلا الله.

وأردف: على المخلصين من أمة الإسلام وعلى العقلاء من قادة العالم أن يتداركوا ما يجري من مسلسل التجاوزات والاعتداءات على الأرض والإنسان، وممتلكاته التراثية والدينية، والمعالم الإسلامية، والحفريات الأرضية التي تنخر أساس مسجد عظّمه الأنبياء، وقدّسه رب السماء، قال تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}.

وتابع: قضية فلسطين ليست قضية شعب أو عرق، أو حزب أو منظمة؛ بل قضية كل المسلمين، ولقد كانت دوماً تستجيش ولاءات المسلمين لبعضهم، تجمع كلمتهم وتوحد صفهم، وهي عنوان تلاحمهم وترابطهم ومحل اتفاقهم، ولا يجوز أن تكون مثاراً لتبادل الاتهامات وتكريس الخلافات، ولا أن تُستغل لإسقاطات وتصفية حسابات.

وقال خطيب الحرم: العدل يقتضي أن نقول إن الفلسطينيين عموماً والمَقَادسة خصوصاً قد ضحوا تضحية عَزّ نظيرها؛ فقد عاشوا أطول احتلال في هذا العصر، وهم متمسكون بأرضهم متشبثون بها، مرابطون على الأكناف بلا أسلحة إلا الحجارة والهتاف منذ أكثر من سبعين عاماً وقراهم تتعرض لمجازر ومذابح؛ وذلك لإرهابهم وتهجيرهم؛ فما زادتهم الأحداث إلا ثباتاً، جرّبوا قهر الرجال في سلب الأرض ومضض التهجير؛ حيث مضت أجيال منهم وقضوا وهم لم يعرفوا من رفاهية الحضارة شيئاً، وُلدوا في خوف وعاشوا في خوف وماتوا عليه، وتكالبت قوى العالم عليهم وهم صامدون، وعاشوا في المخيمات في حين أن الرفاه من حولهم، وولدت كثير من أجيالهم في المنافي والشتات، ويعيشون فيها بأقل أجر وحرمان من فرص وظيفية مناسبة.

وأضاف: القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين وقد بذلوا منذ عقود، ولا يزالون يبذلون؛ سواء كان حرباً أو سلماً، معونة أو مواقف سياسية، ولعدوكم مصلحة في فك ارتباطكم بعمقكم العربي والإسلامي، يُباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم، ويقطع أوصال العروبة كيلا تلتحم، والإشاعة سلاح للعدو مجرب؛ فاستعجال بعضكم باتهامات أو سوء ظن يعود على قضيتكم وقضيتنا بالفشل والتأخر، وإن بعض الأصوات الشاذة غير المتعقلة لتُفرح العدو وتوهن الصلة وتضعف التعاطف، ولستم في حاجة لمزيد من العداوات.

وأشار إلى دعم المملكة المستمر لقضية القدس، ومواقفها الثابتة على مر العصور، وسعيها بكل جهد من أجل حصول الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه التاريخية.

وقال: المملكة دعمت -ولا تزال تدعم- القضية الفلسطينية، وتقف إلى جانب الشعب الفلسطيني دائماً، وتعمل لنصرة قضية القدس التي آمنت بها بصفتها قضية المسلمين الأولى في جميع المحافل الدولية، والواجب على الإعلام العربي أن يقوم بدوره في إبراز هذه القضية فهي قضية العرب الأولى.

ودعا أهل العلم والثقافة والفكر أن يُعنوا بما يحفظ للأمة بقاءها وتراثها وحياتها، والواجب المتحتم في زمن الجد والصراع، وهو اليقظة والاجتماع، والعمل الجادّ والائتلاف، وترك الخلاف.

وأضاف “آل طالب”: لا يليق بأمة الإسلام أن تغرق في خلافات جانبية ونظرات إقليمية أو أنانية، يجب أن تقدم مصالح الأمة الكبرى على كل مصلحة فرعية، وأن تسمع نداءات الحق والعدل ومبادرات الحزم والعقل بأن تطرح الخلافات وتتوحد الأمة في وجه الأزمات، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى