لماذا ينبغي أن يتحول نهج بناء الاقتصادات الرقمية في دول المنطقة من مناقشة قيم التكنولوجيا إلى مشاركتها
أصبح العالم اليوم أكثر اتصالاً من أي وقت مضى بفضل الميزات الاستثنائية للتقنيات الرقمية المتقدمة التي ساهمت في الارتقاء بمستويات الترابط بين المجتمعات وكذلك بين الانسان والآلة. وتتمتع القيمة الفعلية التي بُنيت عليها هذه الروابط وتعززت من خلالها بنفس القدر من الأهمية، لا بل ازدادت أهميتها في العام 2020، حيث يعمل أشخاص كثيرون الآن ويتعلمون ويقضون المزيد من أوقاتهم في استخدام الإنترنت بسبب تأثير جائحة كورونا.
مع زيادة الاعتماد على الاتصالات والتقنيات الرقمية، ارتفعت خلال الأشهر القليلة الماضة وتيرة المناقشات المتعلقة بالقيم الفعلية التي توفرها الاتصالات ومشاركة البيانات والدخول إلى الشبكات، ما يعد تطوراً مشجعاً بشكل عام باعتبار أن الغاية القصوى من أي ابتكار هو الوقوف على ثمار القيم الحقيقية التي يوفرها للبشرية. وتمثل استضافة العديد من القمم والمنتديات الجديدة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط خلال 2020 التي نظمت عبر الإنترنت خير دليل على تبني الحكومات ومقدمي خدمات الاتصالات وشركات التكنولوجيا نهجاً تعاونياً صحيحاً على صعيد تعزيز القدرة التنافسية الاجتماعية والاقتصادية عبر الاستثمار في تقنية المعلومات والاتصالات. وتأتي هذه النقاشات أيضاً في الوقت الذي تسعى فيه الدول في جميع أنحاء الشرق الأوسط لإدراج التحول الرقمي بشكل أكثر فاعلية كعنصر أساسي في خطط التنمية الوطنية، باعتباره محوراً مؤثراً في دفع عجلة تطوير مختلف القطاعات والصناعات. .
ورغم تبني الدول للمسار الصحيح في نقاش قيم التكنولوجيا وسبل الاستفادة القصوى منها، تحدث بعض التوترات المتزايدة في مجتمع تقنية المعلومات والاتصالات نتيجة للتوجهات السياسية الأوسع نطاقاً. وربما يرى البعض أن سبب هذه الخلافات يعود إلى الاختلافات في النظرة العامة للقيم الأساسية التي يتمثلها التكنولوجيا، أكثر من الاختلافات السياسية ذاتها. ولكن بعد إجراء مزيد من الدراسة والتمعن، يتضح عدم دقة هذا السبب.
يتمثل أحد مخاطر الدخول في هذه نقاشات قيم التكنولوجيا في أن القيم الاجتماعية قد تتغير بمرور الوقت، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بمستجدات جديدة تماماً لم تكن في الحسبان كما هو الحال بالنسبة للتقنيات الحديثة، فكثيراً ما تظهر الأفكار والقيم الجديدة في مراحل مختلفة من التنمية الاقتصادية وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً. وقد يكون افتراض وجود مفاهيم عالمية عامة تخص القيم “الغربية” أو “الشرقية” مضراً بشكل أو بآخر لقدرات الدول وسيادتها، إذ يمكن أن تختلف وجهات النظر المتعلقة بمحاور معينة كالإعانات الاقتصادية، وحماية البيئة، والرعاية الاجتماعية، والعديد من القضايا الأخرى، داخل هذه المناطق الجغرافية نفسها بشكل كبير.
في حين تتوقع شركة الأبحاث العالمية “آي دي سي” أن يواصل الإنفاق العالمي على البنية التحتية لتقنية المعلومات النمو بنسبة 4٪ تقريباً هذا العام، فإننا نحاول جميعاً اكتشاف النهج الصحيح لإدارة العالم الرقمي وإقرار القيم المشتركة للتقنيات الحديثة وأفضل السبل للاستفادة منها. وخلال هذه العملية، يتعلم بعضنا من بعض الكثير في مجال تجربة دفع عجلة الاقتصاد الرقمي نحو الازدهار وإيجاد المحفزات اللازمة لذلك من خلال صناعة التكنولوجيا.
وبناء على ذلك، يمكن القول بأننا نحتاج اليوم إلى التحول من مناقشة عموميات القيم إلى مشاركتها فعلياً، بما يتناسب مع طبيعة كل مجتمع وتحدياته وخصوصياته، لننتقل بعد ذلك لنتشاركها جميعاً كأساس صلب متفق عليه يصب في صالح الجميع دون استثناء أو تحيز لمصالح اي طرف. ويتطلب هذا من جميع الدول مراجعة وتحديد مبادئها لخوض غمار تجربة التطوير في المستقبل. ونرى أن هذا يحدث اليوم على جبهتين استراتيجيتين في الشرق الأوسط والعالم.
يتعلق التحدي الرئيسي الأول بقوانين الحوكمة الرقمية القائمة حالياً، فكثير من القوانين الموجودة حالياً قد يكون بعيداً بشكل أو بآخر عن الخطوات المتسارعة للتقدم التكنولوجي. وقد لفتت الفضائح والبرامج السرية التي سلط الضوء عليها بعض متتبعي الفساد مثل إدوارد سنودن، الأنظار إلى هذه المشكلة في السنوات الأخيرة. وللأسف، فإن العديد من حالات اختراق البيانات، وترخيص البيانات غير المصرح به، والتلاعب بالمعلومات الشخصية مازالت تحدث في جميع أنحاء العالم، بما فيها الشرق الأوسط.
مواجهة هذا التحدي ليس بالأمر السهل، إذ يجب دعم القرارات رفيعة المستوى المتعلقة بمبادئ الأمن من قبل المعنيين في القطاعين العام والخاص. والمطلوب في الشرق الأوسط هو وجود إطار شامل متفق عليه يضمن احترام القيم والأطر التنظيمية المحلية في كل سوق، والعمل على تعميمها إقليمياً بما يتماشى مع نظيراتها العالمية الأفضل في هذا المجال وفق أسلوب يتبع سبل الشفافية في إدارة المخاطر المرتبطة بجميع شركات الاتصالات إلى جانب معدات وخدمات جميع الشركات. وهنا تجدر الإشارة أنه في الوقت الراهن، تتضمن هذه القرارات انخراط عدد أكبر من المعنيين أكثر من أي وقت مضى. ولاشك بأن العمل على مثل هذا التحدي والعمل الجاد الذي يحتاجه ضروري جداً، ومنطقة الشرق الأوسط مؤهلة بالتأكيد لمواجهة هذا التحدي. بل لا بد أن نكون على ثقة تامة بأنه يجب فعلياً التغلب عليه لوضع الأمور في نصابها الصحيح.
ويتمثل التحدي الثاني الذي نواجهه جميعاً في الحاجة لإعادة تشكيل نموذج توزيع القيمة الخاص بالاقتصاد الرقمي. إذ يعتمد إيجاد وتوفير القيمة في العصر الرقمي بشكل متزايد على شبكات البيانات والتطبيقات المتصلة. ومع ذلك، لا يزال نموذج توزيع القيمة المستخدم في الاقتصاد الرقمي في دول منطقة الشرق الأوسط وخارجها عالقاً بشكل أو بآخر في ميزان العصر الصناعي. فقد لاتكفل النماذج الحالية للبيانات -كما يجب – حق الملكية أو يوفر تشريعات كافية خاصة بفرض الضرائب رقمياً وملكية البيانات والحق في الحصول على الاستحقاقات المرتبطة بذلك. ولا يزال هذا الأمر مصدر قلق كبير للحكومات في مختلف أرجاء العالم. وينطبق ذلك على منطقة الشرق الأوسط بالتحديد التي لاتزال في طور قطع أشواط طويلة في هذا المجال. ولا يختلف اثنين على أن حل هذه المشكلة لا يمكن إلا من خلال اتباع نهج دولي تعاوني منفتح يحترم كافة الثقافات وينظر لمسألة توفير القيم بشكل متساو بالنسبة للجميع .
لن يساعد التركيز على خوض تجربة المزيد من نقاشات القيمة في مواجهة هذه التحديات؛ بل قد يقوض بشكل خاطىء الثقة والتعاون داخل مجتمع تقنية المعلومات والاتصالات العالمي، إذ يجب أن يكون الهدف الأسمى الذي يسعى الجميع لتحقيقه مشاركة القيم وليس مناقشتها فحسب. وبالنظر إلى الوضع الحالي، يجب أن تكون مسألة تشارك قيم الانتعاش الاقتصادي والاستدامة على رأس أولوياتنا، ولا شك بأنه يمكن للخدمات الرقمية أن تلعب دوراً محورياً في ذلك.
كيف يمكننا إذاً تحقيق التوازن بين التطبيقات التقنية، وتدفق البيانات الجديدة، والأمن السيبراني؟ وكيف يمكننا الحفاظ على الخط الرفيع الفاصل بين العولمة والاعتماد على الذات اقتصادياً أو تكنولوجياً؟
الجواب هو وضع القواعد بشكل أفضل بناء على البعد الهام لتشارك القيم. فالقواعد الراسخة التي تحترم تشارك القيم بين كافة الدول بشكل منصف يمكن أن تساعد في زيادة انتشار الاستخدامات المتقدمة للتكنولوجيا في جميع الصناعات. وسيؤدي ذلك إلى تعزيز رفاهية المجتمعات وبناء الاقتصادات وفقاً للمتطلبات الفريدة لكل دولة. لكن حصول أي تشدد في وضع هذه القواعد بما يتناسب مصالح دول معينة لن يأتي أكله على الوجه الصحيح. والأهم بالنسبة لنا جميعاً أن نؤمن بأن بناء النظام الإيكولوجي لتقنية المعلومات والاتصالات من خلال التعاون بشكل منفتح على كافة الأطراف هو المحور الأهم على طريق تعزيز جهود الإصلاحات الواجبة في مجال التكنولوجيا ومايرتبط بها من التأثير على قنوات التطور ضمن كافة المجالات الأخرى في دول منطقة الشرق الأوسط وخارجها.