العقوبات الأمريكية على هواوي بين التنافسية الاقتصادية والأمن السيبراني
يشهد عالمنا ثورة رقمية كبيرة بفضل انتشار العديد من التقنيات الحديثة التي كان من الصعب الحصول عليها في السابق كتقنية الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي. ويعزى تزايد زخم الرقمنة لإدراك الدول والحكومات بأن التكنولوجيا باتت أحد أهم محاور دعم مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعنصراً أساسياً لدفع عجلة تطوير أعمال القطاعات الحيوية كالرعاية الصحية في فترة فيروس كورونا الحرجة.
لم يكن لقطاع تقنية المعلومات والاتصالات إسهامات اقتصادية كبيرة في الماضي كما هو الحال اليوم، حيث يبدو دوره واضحاً من خلال خمسة محاور تتلخص بإعادة بناء أطر الأعمال التجارية وتحسين إنتاجية العمل ودعم التطور الصناعي وتعزيز المشاريع المشتركة وتوفير المزيد من فرص العمل.
تمتلك العديد من بلدان المنطقة وفي مقدمتها دول الخليج العربي بنية تحتية جيدة للاتصالات وتقنية المعلومات، ما يؤهلها أن تحتل موقعاً متقدماً عالمياً في مجال نشر شبكات الجيل الخامس اللاسلكية والاستفادة القصوى منها في تحقيق التحول الاقتصادي المطلوب المتجسد في الخطط والاستراتيجيات والرؤى الوطنية الطموحة. ولتحقيق ذلك، لا بد من الانفتاح والشفافية والتعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص وتضافر جهود كافة اللاعبين الدوليين في هذا المجال.
ترتقي تقنية الجيل الخامس اليوم لرأس هرم اهتمامات الدول والشعوب لما تحمله معها من فرص غير مسبوقة لدعم التحول الرقمي وفتح آفاق واسعة أمام الصناعات ومستوى خدمات مختلف القطاعات. ولا شك بأن الإمكانيات الكبيرة لهذه التقنية تجعل منها الشغل الشاغل للعديد من القادة والساسة، كما هو الوضع الراهن بين أمريكا والصين والتنافسية الكبيرة في ساحة امتلاك تكنولوجيا تقنية الجيل الخامس التي يتوقع منها أن تقلب موازين القوى، فمن يملكها سيملك المستقبل ببساطة شديدة.
تعتبر العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على عملاق التكنولوجيا الصيني “هواوي” أحد أهم القضايا في عالم التكنولوجيا لما لتقنية الجيل الخامس من تأثير كبير ليس على الأعمال والمستهلكين فحسب، وإنما في مجال تحقيق أهداف التحول الاقتصادي للدول.
برزت الشركات الصينية خلال العقد الحالي كقوة عالمية مؤثرة في مجال التكنولوجيا. وبعد النجاح الذي حققته في السوق الصيني، تواصل مسيرتها لتغزوا العالم بأسره. و”هواوي” أحد أهم ممثلي الابتكارات الجديدة القادمة من الصين، أذهلت العالم بسرعة انتشار حلولها ومنتجاتها في أكثر من 170 دولة حول العالم، متوجة مسيرة أعمالها بالتربع على عرش تقنية الجيل الخامس بلا منازع، الشيء اللي لفت الانتباه لها وجعلها هدفاً واضحاً لدول عظمى لا ترضى سيطرة الصين على مستقبل التكنولوجيا. وسارعت الإدارة الأمريكية المعارض الأبرز في هذا المجال لتصعيد عقوباتها على “هواوي” وباتت مسألة حملة دولة عظمى على شركة حدثاً تاريخياً بالغ الأهمية، وموضوعاً ساخنا للنقاشات الدولية ووسائل الإعلام يومياً.
في 2019، أدرجت الإدارة الأمريكية شركة هواوي في قائمة الكيانات أو ما يعرف بالقائمة السوداء، منعت بموجبها الشركات الأمريكية من التعامل معها. ومارست الإدارة الأمريكية منذ ذلك الحين ضغوطاً على حلفائها ليمنعوا هواوي من بناء شبكات الجيل الخامس في بلدنهم. وزادت الإدارة الامريكية من زخم عقوباتها بمنع الشركة مؤخراً من شراء المكونات اللازمة لشبكات الجيل الخامس التي تحمل أية تكنولوجيا أمريكية من أي مورد في العالم. ولطالما تم تبرير هذه القرارات بأنها من مقتضيات “الأمن القومي” وضرورات الأمن السيبراني. لكن العديد من المراقبين لهذه القضية يرون بأن سياسات الإدارة الأمريكية مدفوعة فعلياً برغبة عدم تمكين الصين من كسر الهيمنة الأمريكية والغربية عموماً على ريادة التكنولوجيا في العالم، سيما وأن الحملة الأمريكية ضد “هواوي” لم تبرز أية دلائل وبراهين حول طبيعة خطر شبكات الجيل الخامس من هواوي على الرغم من مطالبة العديد من المتخصصين أمريكا إظهار ما لديها من أدلة حول الخروقات المزعومة في مجال الأمن السيبراني.
وزير الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو عَبر صراحة عن الأمر في وقت سابق من هذا العام صراحة بقوله: “على أوروبا التخلي عن هواوي للحفاظ على تفوق الغرب في القرن القادم”. ونُقل عن المدعي العام الأمريكي وليام بار مؤخراً قوله بأن “المشكلة” تكمن في بعض الشركات الأمريكية لأنها لا تبذل ما يكفي من الجهود للحفاظ على التفوق الأمريكي. و دعا لتضييق الخناق على الباحثين الصينيين الذين يتم إرسالهم للمشاركة في البرامج التكنولوجية الرئيسية. وحث العالم الغربي على عدم التعامل مع الشركات الصينية مثل هواوي بشأن الجيل الخامس، والتعاون بدلاً من ذلك مع الشركات الغربية مثل نوكيا الفنلندية وإريكسون السويدية. وفي لقاء له مع قناة فوكس بزنس مؤخراً، عبر عن موقف الولايات المتحدة بوضوح تام حين قال: “لطالما كنا رواد التكنولوجيا في العالم، إلا أن الصين تبذل جهوداً كبيرة لتحل مكاننا منذ بداية العقد الحالي. وعلى العالم الغربي أن يستثمر في شركة منافسة لهواوي من أجل استعادة الهيمنة التكنولوجية”.
في الحقيقة، الولايات المتحدة – ولأول مرة في التاريخ – لن تكون رائدة العصر التكنولوجي القادم، باعتبار أن الشركات الصينية هي من تضطلع بهذا الدور حالياً. وقد برز تأثير تكنولوجيا شبكات الجيل الخامس جلياً خلال أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد. وبات واضحاً قدراتها الكبيرة على التعامل مع مختلف مستلزمات هذه الفترة. وفي حين أنه لا توجد شركة أمريكية منافسة في سوق الجيل الخامس، يبدو أن الولايات المتحدة تستغل قدرتها على فرض العقوبات الاقتصادية لتتمكن من كبح جماح الشركات الصينية واللحاق بركب التطور التكنولوجي.
هذا الأمر بالغ الأهمية بالنسبة لمنطقتنا التي تعتبر دولها بأمس الحاجة للمضي قدماً بخطط التحولات الاقتصادية بالاستفادة من التكنولوجيا. وأية عقبات تواجهها سلاسل توريد تقنيات الجيل الخامس يمكن أن تضر بشكل أو بآخر بالمشاريع التي تم بدؤها وتتطلب استمرار التعاون الوثيق بين الدول والانفتاح على كافة موفري التقنيات الحديثة والحفاظ على التجارة الحرة وتدفق البضائع وتبادل المعلومات.
لا شك أن خروقات الأمن السيبراني مصدر قلق لنا جميعاً. لكن الحقائق والتفاصيل حولها لا يجب أن تكون حكراً على دولة معينة، فالخطر الحقيقي يكمن في عدم توضيح الحقيقة، وتوظيف السياسة والعقوبات بوجه طموحات إنجاز التحول الرقمي للشعوب وتحقيق التنمية المستدامة. وبالنظر إلى موقف الولايات المتحدة من التقنيات الصينية الحديثة، فإن قضية هواوي يجب أن توضح للجميع بشكل أفضل في إطار معايير الأمن السيبراني وتوازن سلاسل التوريد والعلاقات الدولية السليمة التي تحترم مصلحة الجميع خلال الحقبة الرقمية الحالية.