المحلية

تقارب الرياض وبغداد.. ذكاء سياسي وعودة لتدفق الدم العربي في جسد العراق

تمثل عودة الحياة للعلاقات السعودية العراقية قوة جديدة للمحور العربي، والذي دأب منذ قرابة العقود الأربعة على حماية الدول العربية من أخطار التمدد الطائفي والمحاولات الأجنبية لتفكيك التماسك.
وعندما قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، أمس الأحد، إن ما يربط السعودية بالعراق ليس مجرد الجوار والمصالح المشتركة وإنما أواصر الأخوة والدم والتاريخ والمصير الواحد، فإن ذلك يؤكد الرغبة الجادة من الطرفين لرمي الخلافات وراء ظهورهم، ونفخ الروح من جديد في المحور العربي الاستراتيجي والذي تشكل لسنوات طوال كانت ركائزه الأهم تمتد من القاهرة غربًا مرورًا بالرياض في قلب الجزيرة العربية والعراق في الركن الشمالي للمنطقة العربية.

معاهدة العقير
هذه العلاقات بين البلدين والممتدة لسنوات طوال كانت تباشيرها الأولى منذ تسعة عقود وتحديدًا في ديسمبر 1922م عندما وقعت السعودية والعراق “معاهدة العقير”، والتي كانت حجر الأساس للعلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين، وعلى الرغم من صعوبة المفاوضات التي شهدتها العقير بين الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه والملك فيصل الأول رحمه الله، إلا أن تلك النقاشات انتهت بقرار ترسيم الحدود بين البلدين على امتداد قرابة 800 كلم، وتعانق الملكان إعلانًا لبدء مرحلة جديدة من تاريخ الود بين البلدين.

معاهدة “العقير” والتي تعززت باتفاقية “بحرة” عام 1925 لمنع الغارات وهجمات القبائل بين الحدود، جاءت لتزيد من مساحة الود بين الجارين الكبيرين ولتتفرغ الدولتان إلى الانتقال بدورها لمرحلة جديدة من مراحل بناء الدولة والمؤسسات، وساد الهدوء بين الطرفين وتبادل المصالح لتحقيق التوازن المطلوب في تلك الفترة.

حرب الخليج الأولى
المرحلة الثانية البارزة في تاريخ العلاقات بين البلدين كانت إبان الحرب العراقية الإيرانية عام 1979م، إذ رمت المملكة بكل ما تملك من قوة خلف العراق وساندتها ضد إيران في حرب السنوات العشر، ونجح خلالها العراق في وقف المد الشيعي وتحجيم رغبات الخميني التوسعية، وبقيت العلاقات المميزة حتى فاجأ العالم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، بغزو الكويت وما تبع ذلك من حربين في الخليج أدتا إلى تبدل كامل في المشهد.

سقوط 2003م
ومع الهجوم الأمريكي على العراق عام 2003م والذي انتهى بسقوط حكم صدام ودخول بغداد في مرحلة عدم اتزان، وجدت السعودية نفسها خلال السنوات الماضية إلى جانب حكومة يغلب عليها النفوذ الشيعي وترتبط بعلاقات قوية مع الخصم الأساس للسعوديين بالمنطقة، والمتمثل بالنظام الإيراني، وسط تهميش للسنة العرب، لتتحول الحدود بين البلدين طوال سنوات إلى مصدر أساس للتسلل بالاتجاهين، مع نشاط للمجموعات المتشددة، ما دفع الرياض إلى النأي عن الخلافات العراقية العراقية مع توجيه النصح لأشقائها بضرورة وقف التدخلات الخارجية وتحديدًا إيران.

الاندفاع لطهران
هذا الابتعاد عن الحضن العربي الذي أدخل العراق في دوامة لا تنتهي من القضايا الإقليمية الساخنة، والخلافات مع جيرانه تغيرت معادلتها مع تغير الحكومة العراقية السابقة – المندفعة بشدة مع طهران – وتعيين رئيس الوزراء المعتدل حيدر العبادي عام 2014م حيث بدأت بغداد في العودة التدريجية لمحيطها العربي، ورحبت الرياض بذلك وقدمت عديد المبادرات الإيجابية لعل أبرزها عودة السفير السعودي إلى العراق ومن ثم زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لبغداد واتبعها زيارة رئيس الوزراء العراقي للعاهل السعودي والانفتاح الاقتصادي والسياسي بين البلدين.

ذكاء سياسي
هذه الرغبة العراقية في العودة العربية، لم تتركها المملكة تمر مرور الكرام، بل فتحت ذراعيها لشقيقتها الحدودية رغبة في إعادة شيء من الروح إلى الوحدة العربية، وتأكيدًا لحماية الدول العربية من الدمار والإرهاب وانتشالها من براثن القلاقل، ومن هنا تبدو حركة السياسة السعودية التي تحاول إعادة تدفق الدم العربي في الجسد العراقي الذي مزقته طائفية الفرس، وجعلت جمع أهله أشتاتًا، وفي سياق مراحل متعددة بذلت فيها السياسة السعودية كثيرًا من أجل العروبة، والمصير المشترك. وتأكيد أهمية التعاون والتنسيق لحلحلة المشكلات التي يعانيها عموم المنطقة، وهذه العودة تسجل لمهارة الدبلوماسية السعودية بدورها السياسي الكبير على المستوى العالمي والعربي، وحضورها في المحافل الدولية، وما لها من خطاب منطقي يُؤخذ به، ونتائج إيجابية يحترمها العالم.

نأي المملكة
مجلة “فورين آفيرز” الأمريكية، علقت على التقارب الملحوظ بين الرياض وبغداد واعتبرته بمثابة أحد الأنباء الطيبة التي طال انتظارها في منطقة الشرق الأوسط، حيث قالت المجلة الأمريكية إن المملكة نأت بنفسها عن مشاكل العراق الداخلية، على مدى السنوات الـ 14 الماضية.

تسوية سياسية
وأكد التقرير أن العراق سيكون من أكثر المستفيدين من هذا التقارب، وهذا من شأنه أن يعزز الجهود الأمريكية لتحقيق الاستقرار بالعراق في أعقاب هزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي، لافتًا إلى أن الرياض تستطيع لعب دور رئيس في منع بغداد من الانزلاق إلى حرب أهلية، ولاسيما أن نفوذ السعودية على زعماء السنة العراقيين والقبائل في محافظة الأنبار قد يساهم في التوصل إلى تسوية سياسية مع الحكومة العراقية.

كره نفوذ إيران
وبحسب التقرير، فإن انفتاح المملكة على العراقيين يساعد في إعادة إدماج العراق بمحيطه العربي، على الرغم من أن العديد من الشيعة العراقيين يثقون في طهران أكثر من أي طرف إقليمي آخر، لكن معظمهم لا يحبون الطبيعة الطاغية للنفوذ الإيراني.

مصالحة وطنية
من جانب آخر، ألمح التقرير إلى أن الولايات المتحدة لا تشعر بالقلق إزاء تنامي الدور السعودي في العراق، منوهًا بأن المملكة يمكنها تخفيف تأثير إيران المفرط في دولة عربية ذات أهمية استراتيجية مثل العراق، علاوة على مساعدة العراقيين للتوصل إلى مصالحة وطنية وتقاسم للسلطة بين السنة والشيعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى