معاناة عضو هيئة التدريس معنويا!
تحدثت مقالة (رواتب أعضاء هيئة التدريس ومكافآتهم) عن معاناة الأستاذ الجامعي ماليا، ويأتي الحديث عن الشق (المعنوي)، فالأعباء التي ينهض بها الأستاذ الجامعي كثيرة تتوزع على ثلاثة محاور (التدريس/ البحث العلمي/ خدمة المجتمع) وهذه الأعباء تستدعي تنقية البيئة الأكاديمية من المنغصات الحادثة بقصد أو بغير قصد، فللمنغصات مردودها النفسي السالب على أداء أعضاء هيئة التدريس.
الأستاذ الجامعي هو أس العمل الأكاديمي، وكل الإدارات والعمادات مساعدة ومكملة لدوره، وإذا فهمت المعادلة بهذه الكيفية سيكون للعمل الأكاديمي وجهة إيجابية مختلفة، وطعم مغاير للسائد، فالتذمر أضحى شائعا بين جل من أقابلهم، أو ما يكتب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لأن بعض الجامعات همشت الجانب النفسي لأعضائها، فأصبحوا يشعرون بالغربة داخل صروحهم الأكاديمية، وكثيرون يشتكون أنهم كركاب الطائرة، عليهم الجلوس في مقاعدهم واتباع تعليمات الملاحين، ولا شأن لهم بالباقي، فالجامعة لفئة تسيرها وفق ما تراه هي فقط.
هذا الشعور السلبي يأتي من الخلل الإداري الذي يعامل عضو هيئة التدريس على أساس (وظيفي)، وهذا الأسلوب يجافي الأكاديمية التي تقوم على أساس متين من الثقة وشعور الأستاذ الجامعي بمسؤوليته عن سمعة وترقي صرحه الأكاديمي، وجودة مخرجاته، فالعمل الأكاديمي لا يتقدم برؤية شخص، أو طقم إداري، ولائحة التعليم العالي تؤكد ذلك صراحة وضمنا، فهي تدخل الأساتذة من غير الإداريين في كثير من المجالس واللجان، للتأكيد على انتفاء مبدأ التفرد بالقرار.
تتآكل الأكاديمية لأن بعض جامعاتنا تغذي (الهوس بالمنصب) الذي أفرزته التحزبات والامتيازات وانعدام تكافؤ الفرص، ونشوء الطبقية الوظيفية، حتى أصبح العمل الإداري مطلبا لكثير من الأساتذة، يبرره شعورهم بالتهميش، والنقص، والحرمان مما يستحقون، وهذا كله بسبب اضمحلال تقدير الأستاذ الجامعي في مؤسسته الأكاديمية، وقلة دعمه في إنجازاته داخل وخارج الجامعة، إلا إن كان يؤدي مهمة إدارية.
شعور الأستاذ بأن جامعته لمجموعة معينة من أكثر الحكايا الهامسة التي سمعتها، وفي تسابق الجامعات اليوم على النشر الإعلامي بفعل الإعلام الجديد زاد هذا الشعور، فأساتذة يشتكون من أنهم حققوا نجاحات شخصية، علمية أو أدبية أو ثقافية، وبعضهم شارك في مؤتمرات داخلية أو خارجية، وبعضهم أصدر مؤلفا، أو أنجز بحثا أو دراسة مهمة، وبعضهم فاز بجائزة، وغيرها من النجاحات، لكن جامعته لم تلتفت إليه، ولم تكتب عنه (تغريدة) على الأقل تشعره بانتمائه إلى هذه المؤسسة، في حين يجدها تنشر مواد لا قيمة لها مقارنة بمنجزات الأعضاء، وبعضها تمايز فتنشر للمقربين من المركز، وهناك أساتذة يشتكون من تضييق جامعاتهم على مشاركاتهم في الملتقيات والمؤتمرات التخصصية التي يدعون إليها، وبعض الجامعات تذهب إلى أبعد من ذلك، فتسائل العضو لو شارك في فعالية حتى داخل مدينته!
إحدى الأستاذات في جامعة ما، قصة معاناتها أشبه بالخيال، فهي أديبة معروفة، حكت لي أن: عملها الإبداعي فاز بجائزة عربية مرموقة، لكن جامعتها رفضت سفرها (مصروفة مكلوفة) لتسلم الجائزة، ولم تعِر فوزها اهتماما يليق بمنجز وطني للأدب السعودي، ثم حين فازت طالبة الصف الثالث الثانوي من منطقة إدارية مختلفة، في مسابقة قرائية خارجية طارت الجامعة بفوزها بعد التحاقها بها في (العام التالي)، واستنفرت قواها في إشاعة المنجز والتباهي به وتجييره لها إعلاميا، وزاروا أمير المنطقة وغير ذلك، وهذه الحكاية تضعنا أمام مفارقة عجيبة، فالجامعة تركت ما لها واحتفت بما ليس لها، مما يكشف عن المزاج الشخصي وهوس المسؤول بالأضواء والمنجز الأجوف، فلم تهمه المؤسسة وأعضاؤها وسمعتها، وبالحديث عن سمعة الجامعة فهي مرتكزة على تميز أمرين: (البرامج الأكاديمية، والأساتذة).
أكثر من زميل في جامعات مختلفة، يحكي واحدهم أنه أرسل لإدارة جامعته مقترحات أو مبادرات أو تصورات، وعهده بها حينذاك، فلم يتلق ردا بموافقة أو رفض أو تعديل أو مقابلة مع لجنة لمناقشة فكرته، فكيف سيشعر أمثال هؤلاء ـ وهم كثيرون ـ بالانتماء والشراكة الأكاديمية في جامعاتهم؟ وكيف سيكون أداؤهم حتى مع طلابهم وأعماقهم مثقلة بالإحباط، والهمم الذابلة؟
لا مناص من ضرورة التفات الوزارة والجامعات إلى مكانة الأستاذ الجامعي فيها، وتلمس كل ما من شأنه تنقية البيئة الجامعية، وتثبيت عجلات الأكاديمية على مسارها الصحيح، فبعض ما نشاهد ونسمع اليوم يكشف عن انحراف سيؤثر على مخرجات الجامعات وشخصيتها العلمية والبحثية محليا وعالميا.