يستمر مناخ كوكبنا بمواجهة العديد من الأخطار التي تهدد جوانب حيوية من حياتنا اليومية. وفي الوقت الذي تبرز فيه أهمية استغلال الطاقة على الوجه الأمثل، نشهد زيادة زخم الرقمنة وبروز مزيد من التقنيات المتطورة التي يمكن توظيفها في هذا الإطار، أهمها نشر شبكات الجيل الخامس على نطاق واسع، حيث يتوقع أن تسهم هذه التقنية في دعم مسيرة تنمية وتطوير مختلف القطاعات والصناعات لتحقيق أهداف الاستدامة من خلال التحول بالعمليات الإنتاجية وأساليب إدارة العمل.
على مدار الأعوام الماضية أطلقت الحكومات والمنظمات الدولية - بما فيها دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا - العديد من برامج الاستدامة وحماية المناخ لتحقيق الأهداف الواردة في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن التغير المناخي والتي تم إقرارها في باريس في عام 2016. ومنذ ذلك التاريخ، تسعى العديد من الاقتصادات المحلية للوفاء بالتزاماتها ولتخلص من الانبعاثات بحلول عام 2050.
لا شك أن الدور الحكومات مهم للغاية في هذا الإطار، إلا أن مسؤولية التعامل مع هذا الملف لا يمكن اختزالها بالحكومات، فقد أدى نمط الحياة الحديث إلى تزايد الاعتماد على الوقود الأحفوري كمصدر للطاقة بنسبة وصلت إلى 85% وفق إحصائيات عام 2018، وهذا واحد من العوامل الرئيسية المسببة لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وينتج العديد من الكوارث الطبيعية ويشكّل خطراً على حياة الانسان والحيوان، حيث ازدادت نسبة انبعاثات الاحتباس الحراري بمعدل وصل إلى 1.5% سنوياً بين عامي 2008 و2018 وفقاً لتقرير الاحتباس الحراري الذي نشرته الأمم المتحدة في عام 2019. كما وصل إجمالي انبعاثات مكافئ ثاني أكسيد الكربون إلى مستويات قياسية بلغت 55.3 جيجا طن في عام 2018.
هنا تأتي مسؤولية جميع القطاعات في التركيز على وضع خطط تسهم في الحد من الانبعاثات. وبدوره، يأخذ قطاع الاتصالات على عاتقه مسؤولية تحسين كفاءة استهلاك الطاقة، حيث كانت صناعة الهواتف الخلوية واحدة من أولى القطاعات التي تلتزم بتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة في عام 2016. ويسعى قطاع الهواتف الخلوية إلى التخلص من الانبعاثات بشكل كامل بحلول عام 2050.
تسهم التقنيات الحديثة مثل الحوسبة السحابية وشبكات الهاتف المحمول المتطورة في ابتكار تجارب جديدة تطال مختلف جوانب الأعمال والحياة الشخصية، ومن المهم أن تتحقق هذه الإسهامات دون آثار مضرة بالبيئة. وتستهدف السياسات المحلية والدولية تعزيز كفاءة استهلاك الطاقة والانتقال من الاعتماد على الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح والماء، مما يتطلب اتباع نهج جديد وأدوات جديدة لاستهلاك الطاقة. وهنا يبرز دور شبكات الجيل الخامس كعامل مهم لتمكين النهج الجديد، حيث ستؤدي طريقة نشر الجيل الخامس دوراً أساسياً في هذا الصدد، فكفاءة استهلاك الطاقة واحدة من الأهداف الرئيسية لخطط نشر وتحسين شبكات الهاتف المحمول - بدءاً باعتماد أنظمة الطاقة الذكية في المحطات الرئيسية إلى أعمال الصيانة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي - مما يُبرز أهمية الجيل الخامس في توفير مصدر مستدام للطاقة.
الجيل الخامس "عامل تمكين" هام لأعمال مختلف القطاعات والصناعات بفضل إسهاماته الكثيرة في تحقيق أهداف التنمية والتطوير، مع الحفاظ على المناخ. ووفقاً لتقرير نشره الاتحاد الدولي للاتصالات تحت عنوان "سنة 2020 الذكية"، أسهم الجيل الخامس بدور هام في الحد من الانبعاثات على المستوى العالمي بنسبة تصل إلى 15% في نهاية عام 2020، إذ تعمل شبكات الجيل الخامس فائقة الكفاءة والتي تتمتع بزمن استجابة منخفض وتم نشرها على نطاق واسع على تغيير أسلوب تنفيذ العمليات والعديد من السلوكيات التقليدية.
وبفضل تقنيات المحاكاة الافتراضية والحوسبة الطرفية وتحليل البيانات بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، يتيح الجيل الخامس تنفيذ عمليات جديدة كجزء أساسي من البرامج التي تهدف لتحسين استهلاك الطاقة من خلال تعزيز الاعتماد على الموارد الأكثر كفاءة ومرونة. ويمكن الاعتماد على النطاق الترددي لشبكات الهاتف المحمول الذي يوفر العديد من الطرق الجديدة للعمل والاتصال، للحد من استهلاك الطاقة قدر الإمكان. ومن خلال الاستخدام الذكي للموارد، يمكن الحد من استهلاك الطاقة بعدة طرق أهمها دعم الأنظمة الذكية لإدارة الطاقة والحد من احتياجات المكاتب للطاقة وسلاسل التوريد فائقة الكفاءة التي تعتمد على التحليلات المسبقة؛ وكذلك أنظمة الإدارة الذكية الآلية لحركة السيارات التي تنقل الأشخاص والبضائع.
وبحسب دراسة أجرتها شركة أناليسيس مايسون للأبحاث عن أثر الجيل الخامس على كفاءة استهلاك الطاقة في ثلاثة قطاعات تتطلب تحقيق التحول في استخدام الطاقة بشكل عاجل هي الطاقة والرعاية الصحية والتصنيع التي تسهم بنسبة كبيرة من انبعاثات الاحتباس الحراري، توصلت الدراسة إلى أنه يمكن للجيل الخامس أن يسهم في الحد من الانبعاثات في هذه القطاعات بشكل كبير، لا سيما عند دمجه مع بقية التقنيات مثل الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء. كما يمكن أن يسهم في تمكين الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة.
ويؤدي الجيل الخامس والتقنيات المقترنة به دوراً مهماً في تحقيق الاستدامة في العديد من القطاعات أهمها النقل الذي يسهم بما يصل إلى ثلث الانبعاثات في مختلف المناطق. بالتالي تبرز أهمية الجيل الخامس في تشغيل السيارات ذاتية القيادة التي تعتمد على المصادر المتجددة للطاقة الكهربائية من خلال توفير المعلومات التي تحتاجها السيارات لتنفيذ عمليات التوجيه والركن وغيرها في الوقت الفعلي. أي أن الجيل الخامس يتيح استخدام الطاقة بكفاءة أكبر ويسهم في الحد من الازدحام المروري والتلوث.
وتبرز المدن الذكية كواحدة من أهم الأمثلة على دور التكامل بين الجيل الخامس والتقنيات الحديثة بما فيها تحليل البيانات بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي والحوسبة الطرفية وإنترنت الأشياء الذي يوفر الاتصال بين عدد هائل من التجهيزات والمعدات والأشخاص، في توفير أساليب مستدامة وتتمتع بالكفاءة بالاعتماد على التقنيات الرقمية للعيش والعمل والسفر. وتتمتع برامج المدن الذكية مثل برنامج "C40 Cities" والتي تعتمد على تقنيات الاتصال كعامل تمكين، بكفاءة كبيرة حيث ساهمت في الحد من غازات الاحتباس الحراري التي تنبعث من السيارات بنسبة وصلت إلى 30% في أوقات الذروة في العديد من المدن الأوروبية مثل لندن وبرلين ومدريد وبنسبة وصلت إلى 61% في كوبنهاغن.
ولتعزيز كفاءة استهلاك الطاقة بالاعتماد على الجيل الخامس، يمكن للحكومات والهيئات المعنية وشركات الاتصالات وجميع القطاعات وأصحاب المصلحة تنفيذ العديد من الإجراءات التي تشمل التعاون بين المعنيين لاعتماد منصات مشتركة واتباع أفضل الممارسات. ويؤدي حرص الهيئات التنظيمية على تسهيل قوانين وإجراءات نشر شبكات الجيل الخامس من خلال توفير النطاق الترددي والبنية التحتية في المدن في الوقت المناسب وبطريقة سلسة لرفع جدوى إسهام شبكات الجيل الخامس في توفير الطاقة. كذلك يمكن لشركات الاتصالات أن تعزز نهج العمل الذي بدأته في بناء مزيد من جسور العلاقات مع كافة أصحاب المصلحة من نشر شبكات الجيل الخامس لتحديد الأهداف المشتركة ووضع الخطط اللازمة لتعزيز كفاءة الجيل الخامس في الحد من استهلاك الطاقة ووضعها في مقدمة أولوياتها عند التخطيط لنشر الجيل الخامس.
مما لا شك فيه أن إطلاق إمكانات الجيل الخامس لتعزيز كفاءة استهلاك الطاقة والمساهمة في الحفاظ على المناخ يتطلب تضافر جهود جميع أصحاب المصلحة والدول والشركات، وتعزيز العمل المشترك على بناء النظام الإيكولوجي المطلوب لقطاع الاتصالات وتقنية المعلومات لصالح بقية القطاعات والصناعات والمجتمعات الإنسانية.

بقلم: عمار طبا، المدير الإقليمي للعلاقات العامة والإعلام، هواوي الشرق الأوسط