تخلى لارس هاتفيج عن التدخين وقضاء العطلات والخروج مع الأصدقاء، كما أنه يضيئ مصباحا كهربائيا واحدا داخل شقته السكنية في العاصمة الألمانية برلين، وعندما يأتيه زائرون، فإنه يطلب منهم استخدام صندوق الطرد داخل دورة المياه في أقل حدود ممكنة، وهو يفعل كل هذا من أجل تحقيق هدفه، ألا وهو التحرر من قيود العمل والرواتب.
وتقاعد هاتفيج منذ ثلاث سنوات، ويبلغ حاليا من العمر 47 عاما، وهو من بين عدد لا بأس به من الألمان المخلصين لفكرة الاقتصاد في الإنفاق، وهي فلسفة تتعلق في المقام الأول بتبسيط الأمور والتواضع والاعتدال.
ويدخر هؤلاء الأشخاص، الذين يطلقون على أنفسهم اسم المقتصدين في الإنفاق، دخلهم قدر المستطاع، وكثيرا ما يستثمرون أموالهم في الأسهم وصناديق الادخار.
وإذا ما أثمرت جهودهم، فإنهم يجنون ثروة بشكل تدريجي كي يعيشوا من ريعها حتى نهاية حياتهم دون أن يضطروا للعمل مرة أخرى.
وبحسب “الألمانية”، يؤكد خبراء الاقتصاد الألمان أن هذه الفكرة نبعت في الولايات المتحدة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 وذكر معهد الاتجاهات وأبحاث المستقبل في مدينة هايدلبرج أن “كثيرا من الأمريكيين أصبحوا أكثر وعيا بالرغبة في الاحتفاظ بأموالهم”، مضيفا أن “نمط الحياة القائم على الاقتصاد في الإنفاق يمكن أن يساعدهم في هذا السلوك الاستهلاكي القائم على الوعي”.
وبدأ حلم التحرر المالي لدى هاتفيج في توقيت كان يعاني فيه من الإفلاس، وفي عام 2003، وقف هاتفيج أمام ماكينة للصراف الآلي لتخبره بأن رصيده خالٍ تماما من النقود، وهو ما جعله يبدأ التفكير في أمرين، أولهما، من يستطيع إقراضه 50 يورو، وثانيهما، لماذا، وهو خبير أرصاد جوية يعمل بدوام كامل، يستنفد رصيده المصرفي تماما كل شهر؟
ويشير هاتفيج: “لم يكن مرتبي سيئا، ولكني كنت أنفقه بالكامل”، وأردف قائلا، “عرفت حينئذ أنني لا بد أن أغير شيئا ما”.
وبدأ هاتفيج على الفور في تحويل جزء من مرتبه إلى حساب مصرفي آخر والاستثمار فيه، أولا في السندات والأسهم ثم في الصناديق المشتركة، وأخذت ثروته الشخصية تنمو حتى وصلت إلى قرابة 50 ألف يورو (60 ألف دولار)، عندما حلت الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
ويسترجع هاتفيج تلك الأحداث: “فجأة خسرت كل شيء، وفي ذلك الوقت بدأت طريقة الاقتصاد في الإنفاق”.
وتمسك هاتفيج بما لديه من استثمارات، التي ارتفعت قيمتها مرة أخرى في وقت لاحق، وعن طريق التخلي عن كل شيء تقريبا، استطاع ادخار قرابة 70 في المائة من دخله كل شهر، بهدف الوصول إلى التحرر المالي.
وبحسب دراسة أجراها معهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية التابع لمؤسسة “هانز بيوكلر”، فإنه في دولة مثل ألمانيا معروفة بعادات الإنفاق المقيدة، فإن واحدة من كل عشر أسر يمكنها أن تعيش على مدخراتها لمدة 13 عاما مع الاحتفاظ بمستوى المعيشة نفسه، وأن 5 في المائة من الأسر يمكنها أن تعيش اعتمادا على مدخراتها لمدة عقدين من الزمان.
ومن ناحية أخرى، فإن 30 في المائة من الأسر الألمانية ستستنفد مدخراتها في غضون عدة أسابيع أو أشهر، وكتبت أنيتا تيفينسي خبيرة الاقتصاد أن “الآباء غير المتزوجين وأطفالهم عادة ما ينتمون إلى هذه الفئة”.
وليس من المعروف عدد الأشخاص الذين ادخروا ثروة ووصلوا إلى الحرية المالية اعتمادا على فكرة الاقتصاد في الإنفاق.
ويقول هاتفيج إن عددا قليلا فقط من الشعب الألماني يستطيع في تقديره أن يعيش بطريقة الحياة التي يعيشها هو نفسه لعدة سنوات.
ويرى هاتفيج أن الاقتصاد في الإنفاق ليس سهلا لاسيما بالنسبة لأصحاب الدخل المحدود، مضيفا أن أي شخص يتكسب أقل من ألف يورو شهريا سيستغرق عقودا قبل أن يصل إلى الحرية المالية.
وتقول تيفينسي إن “القدرة على اتخاذ إجراءات احترازية فردية في الإنفاق تفترض أن الشخص لديه دخل ثابت يعتمد عليه يتجاوز حد احتياجاته الأساسية، ولكن ذلك ليس هو الحال بالنسبة للكثيرين”.
ويرى هاتفيج أن هناك أيضا الأحداث غير المتوقعة أو الانتكاسات التي يمكن أن تطرأ مثل خسارة الوظيفة أو الإصابة بمرض لفترة طويلة.
من ناحية أخرى، هناك أيضا أصحاب الدخول المرتفعة الذين يجدون استحالة في الادخار المفرط، وأوضح هاتفيج: “بالنسبة للأشخاص الذين يريدون الأجود في كل شيء، فإن هذه الاستراتيجية لن تجدي نفعا”.
ويعتقد هاتفيج أن ادخار نصف دخلك لبعض الوقت يؤدي إلى تغيير نظرتك إلى قيمة النقود، ولكنه لم يعد باستطاعته تصور حياته كشخص مقتصد في الإنفاق على المدى الطويل.
ويذكر هاتفيج أنه “في وقت ما، تصل إلى نقطة لا تستطيع معها شد الحزام أكثر من ذلك”، وأضاف أنه ما زال يقتصد في الإنفاق، ولكنه أحيانا يسافر في عطلة أو يستمتع بتناول العشاء بأحد المطاعم.
وتخلي هاتفيج عن وظيفته كخبير أرصاد جوية بهيئة الأرصاد الجوية المحلية في عام 2015، ومنذ ذلك الحين، أصبح مستقلا ماليا وصار قادرا على العيش اعتمادا على مدخراته وفوائد وأرباح الأسهم والسندات التي اشتراها.
وعلاوة على ذلك، فهو يواصل العمل بشكل مستقل كخبير مالي، ولكن فقط بالقدر الذي يرغب فيه، ويؤكد أنه يستطيع عدم الذهاب للعمل لمدة أسبوع دون أن يؤثر ذلك على حسابه المصرفي.