فن وثقافة

مدافع الشعراء

بقلم:مرزوق بن علي الزهراني

 

الشعر ديوان العرب، ومرآة تعكس حياتهم ومواقفهم وأحاسيسهم، وهو بذلك جزءٌ لا يتجزأ من منظومة وجودهم. حيث يسجلون فيه تاريخهم وثقافتهم ويعبرون عن مشاعرهم وأفكارهم بأبهى صور البلاغة والفصاحة. وفي هذا السياق برز “شعر الهجاء”، ذلك السلاح الذي كان يخشاه الناس أكثر مما يخشون السيوف والرماح، لقدرته على جرح الكرامة وإشعال نار العداوة.
كان شعراء الهجاء بمثابة فرسان الكلمة، يشعلون قوافيهم كسيوف متقدة، ويرفعون أبياتهم كدروع واقية. ومن بين هؤلاء الشعراء، برز اسم ابن فسوة وهو عتيبة بن مرداس السلمي، كشاعر هجاء لا يشق له غبار.
وقد ورد في السير إنه طلب الإذن للدخول على “ابن عامر بن كريز”، ولكن عامر رفض مقابلته وأرسل إليه رجاله فضُربوه وأهانوه. فأنشد ابن فسوة قائلاً:
وكائن تخطّت ناقتي وزميلها … إلى ابن كريز من نحوس وأسعد
وأغبر مسحول التراب ترى له … حيا طردته الريح من كل مطرد
لعمرك إني عند باب ابن عامر … لك الظبّي عند الرّمية المتردّد
فبلغ قوله” ابن عامر”، فخاف لسانه وقال: ردّوه فرُدّ، فقال له: هاه يا أبن فسوة، أعد عليّ ما قلت، فقال: ما قلت إلا خيرا قال: نسمعه إذن فقال: قلت:
أتعرف رسم الدار من أم معبد … نعم فرماك الشوق قبل التجلّد
فيا لك من شوق ويا لك عبرة … سوابقها مثل الجمان المبدّد
وكائن تخطت ناقتي وزميلها … إلى ابن كريز من نحوس وأسعد
فتى يشتري حسن الثنّاء بماله … ويعلم أنّ المرء غير مخلّد
إذا ما ملمّات الأمور اعترينه … تجلّى الدّجى عن كوكب متوقّد
فضحك” ابن عامر” وقال: والله ما هكذا قلت، ولكنك تراجعت وهذا ما نشدته، فأعطاه من المال حتى أرضاه وانصرف.
وأيضا، كان الحطيئة، “أبو مليكة جرول بن أوس العبسيّ”، شاعرًا بارزًا في هذا النوع من الشعر، ولم يكن هناك أحد قد نجا من هجائه، بما في ذلك أبواه وأخواله وأعمامه وزوجته؛ بل إنه هجى حتى نفسه؛ حيث قال:

أبت شفتاي اليوم إلا تكلمًا ….. بسوء فلا أدري لمن أنا قائله
أرى بي وجها قبح الله خلقه…… فقبح من وجه وقبح حامله

وجاء في هجائه لزوجته:

لها جسم برغوث وساقا بعوضــة
ووجه كوجه القرد بل هو أقبح
تبرق عينها إذا ما رأيتهـــــــــــا
وتعبس في وجه الضليع وتكلح
لهــا منظر كالنار تحسب أنهـــا
إذا ضحكت في وجه الناس تلفح
إذا عاين الشيطان صورة وجهها
تعوذ منها حين يمسي و يصبح

ولم تسلم والدته كذلك من هجاءه حيث قال فيها:
تنحي فاقعدي مني بعيداً … أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاءَ مني… ولكن لا أخالُكِ تعقلينا
أغربالاً إذا استودعت سراً …وكانوناً على المتحدثينا
جزاك الله شراً من عجوز… ولقاك العقوق من البنينا
حياتكِ ما علمت حياةُ سوء… وموتُكِ قد يـسرُّ الصالحينا
وقد زار الحطيئة ذات يوم الزبرقان بن بدر، فأكرمه واستضافه في بيته، ثم ما لبث أن رأى من الزبرقان ما ساء خاطره، وكدر صفوه فارتحل عنه، وبحروفه الجارحة أشعل نار الهجاء فيه، قائلا:
دع الـمكارم لا تـرحل لـبغيتها
وأقـعد فإنك أنت الـطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
وعند سماع “الزبرقان” القصيدة، غضب بشدة وشعر بالإهانة، وذهب ليشكوه إلى أمير المؤمنين “عمر بن الخطاب”، مدّعيًا أن الحطيئة أساء إليه. مما جعل عمر يستدعي كلا من “حسان بن ثابت”، و”لبيد بن ربيعة” ليتبين الأمر، فقال أحدهما أن” الحطيئة “لم يهجوه بل سلح عليه، وقال الآخر: “الحمد لله أن هذه الأبيات لم تقل لي”. فأمر “عمر بسجن الحطيئة عقوبة له. فأنشد الحطيئة قائلا:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ
زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ
ألقيت كاسبَهم في قعر مُظلمة
فاصفح، عليك سلام الله يا عمر
وعندما سمع عمر هذه الأبيات، بكى وأمر بإطلاق سراحه.

بقلم:مرزوق بن علي الزهراني
alzmarzouq@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى