عام

الإعلام الجديد و أثره على الخصوصية الثقافية

 تعرف المجتمعات اليوم ثورة إعلامية تجلت في التطور المتسارع في تكنولوجيا الاتصال ، جعل العالم قرية كونية مفتوحة، و ألغى كل المفاهيم التقليدية للحدود الجغرافية و السياسية بين الدول .   فقد تغلبت وسائل الاتصال الرقمي الحديثة على قيود الوقت والمسافة، كما انتشرت شبكات الاتصال ، سواء الصحافة الإلكترونية والمدونات، ومواقع التواصل الاجتماعي، و البريد الإلكتروني وغيرها ، مما زاد بشكل كبير من فرص تنويع مصادر المعرفة والمعلومات و إتاحتها لكل الشعوب ، و و قدرتها على التأثير  في الثقافة و مضامينها . 

           وقد أدى نمو وسائل الاتصال الرقمي وتطورها السريع إلى تغيرات شاملة في الحياة الثقافية، وأصبح من الممكن الآن أن تكون المادة الثقافية متاحة للجميع على شبكة الإنترنت ، و أن تنعقد العلاقات والصلات الثقافية بين الشعوب.  فانزاحت الحدود والفواصل التي كانت تعيق الاتصال الثقافي واللغوي وانقضى عصر العزلة.

             فضلا عن ذلك ، فإن التكنولوجيا الجديدة لوسائل الاتصال والإعلام قدمت خدمات جليلة للثقافة، فأتاحت الفرصة للمواطن التواصل مع الآخرين و الانفتاح عليهم وأن ينال حقه من الثقافة المتعددة المصادر .  و في الوقت نفسه ساعدت هذه التكنولوجيا على إحداث ما يسمى ب ” العولمة الثقافية ” بسبب الفجوة التي حصلت بين الدول المتقدمة التي تمتلك تلك التكنولوجيا والدول النامية التي تفتقر لها. و توصف العولمة الثقافية بأنها ثقافة ذات بعد واحد و ثقافة الأقوى، ثقافة كل من يملك وسائل الاتصال الرقمي الحديثة القادرة على خلق اختراق حقيقي للثقافات المحلية لصالح الثقافة المعولمة . فمثل هذه الثقافة تنتشر وتسود على حساب ثقافات محلية عديدة .

              و لذلك ، فقد أصبح العالم يواجه الكثير من الإشكالات المعاصرة نتيجة التطورات الهائلة لتكنولوجيا الاتصال و الاعلام ، حيث حصل صدام بين الثقافات المحلية و الثقافة العالمية ( الثقافة الغربية على الخصوص ) و حصلت انعكاسات على منظومة القيم، وأنماط التفكير، وأساليب الحياة ، بل سادت أحيانا ثقافة الهيمنة من قبل الثقافة الغربية على الثقافات المحلية ، في الوقت الذي  يجب على الإعلام الرقمي المساهمة في نشر ودعم الموروث الثقافي للدول ، نظرا للأدوار التي قد يلعبها الإعلام في تعزيز الاتصال الثقافي، و بناء علاقة تكامل و انسجام بين الثقافات المتعددة.

               لكن هذا لا يعني أن تبقى الثقافة المحلية ( الثقافة العربية كمثال في هذا الخصوص  ) حبيسة الخصوصية الضيقة التي ترفض التفاعل و التلاقح مع الثقافات الأخرى . فالتخلف أو الانكماش الثقافي في بعض المجتمعات، سببه عدم مواكبة وسائل الاتصال الحديثة و التطور المعرفي والتقني و تجاهل بناء ثقافة الإعلام الجديد المنفتحة والمتجددة و التي تتطور بشكل سريع . 

            فالمجتمعات الآن ، ذات الخصوصيات الثقافية ، تواجه تحديات مختلفة تفرض عليها أن تغير منظومتها التربوية و التعليمية لمواجهة تحديات الاعلام الرقمي، و التطور السريع للمفاهيم الثقافية والنظام الثقافي والسلوكي بشكل عام ، والتحولات اليومية التي يعرفها المحيط الخارجي بسبب ثورة الاعلام الرقمي  أو الاعلام الجديد.

                 و من زاوية أخرى ، فإن الحوار بين الثقافات والشعوب واحترام التنوع الثقافي باعتباره تراثاً مشتركاً للإنسانية، يقتضي زيادة التفاعل بين الثقافات ، لأن التحدي الكبير الذي تواجهه الثقافات المحلية في القدرة على التواصل مع المحيط بغض النظر عن الاختلافات الثقافية. وهنا يأتي دور وسائل الإعلام التي بإمكانها أن تضطلع بمهمة الوسيط في حفز التقارب بين الثقافات و تكاملها ، عوض تناحرها أو هيمنة العض منها على الآخر .

                 و لا ريب أن استخدام الإعلام الجديد بهدف فسح المجال أمام مختلف الثقافات للتعبير عن نفسها بكل حرية أمر حتمي لترسيخ أسس التفاهم بين الشعوب والحوار بين الثقافات ، لأنه يمتلك القدرة على تيسير هذا الحوار بين الثقافات و تجاوز التصورات النمطية الموروثة، وتبديد الجهل الذي يغذي سوء الظن بالآخرين وينمي الحذر منهم، ومن ثم تعزيز روح التسامح والقبول بالاختلاف.

                و نشير أيضا في هذا الخصوص إلى أن وسائل الإعلام الجديد يمكن لها أن تلعب دورا في تعميق الخلاف بين الثقافات أو في تقريب وجهات النظر ومد الجسور بينها ، بما يعزز التفاهم و التناغم على نحو أفضل.

                و إذا كانت بعض الدول الصناعية تريد، عن طريق تقنيات الاتصال الحديثة و المتطورة ، تحويل الثقافة إلى تجارة و إفراغها من مدلولاتها المعيارية بغرض الهيمنة ، حيث تصبح رهينة في أيدي هذه الدول و شركاتها الكبرى ، يتم توظيفها في  تغيير الأفكار و العادات و السلوكات الاجتماعية للسيطرة  ثقافيا ثم اقتصاديا على المجتمعات ، فإن ذلك لن يخدم الثقافة بصفة عامة و قد يساهم في الغزو الثقافي الذي يزيد في خدة الصدام الحضاري .

الدكتور خالد الشرقاوي السموني

مدير مركز الرباط للدراسات السياسية و الاستراتيجية

creps2014@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى