«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار
يحتاج الفلسطيني في الأرض المحتلة، كما في أقطار الشتات، الى وقت طويل ليتأكد من صحة الاتفاق الأخير الذي تم بين حركتي «فتح» و «حماس» على طي صفحة النزاع والقطيعة بين رام الله وغزة، وكأنهما عاصمتان لدولتين وقوميتين ولغتين، بل كأن كلاً منهما في مواجهة الأخرى إسرائيل.
هذا واقع مؤلم يلاحق الفلسطيني، في أي مرتبة، وفي أي أرض كان، والى أي فصيل أو عقيدة انتمى، ولا نفع من كل الطروحات والبيانات ومواثيق الشرف المبرمة بين المنظمات.
وهذا الفلسطيني الذي صار رقمه بالملايين على مدار الأرض، وقد باتت فلسطين في الغسق الأخير من رؤياه في الذاكرة، لم تعد تعنيه خطابات «حماس» ولا بيانات «فتح»، ولا المذكرات الوثائقية التي تتلى في المحافل الدولية لتأكيد أن إسرائيل عدو همجي بلا ضمير، ولا أخلاق، وأن الفلسطيني المشرّد هو المالك الشرعي المغيّب بالحديد والنار عن أرضه والمقدسات.
مع ذلك، هناك نحو ثلاثة ملايين فلسطيني لا يزالون على ما بقي لهم من أرزاقهم ومن خيراتهم ومقدساتهم، مع ما بقي لهم من رجاء وإيمان للصمود على أرض يعمل العدو الإسرائيلي المحتل على تجويفها تحت أقدامهم، وتحت وسائد أطفالهم ومرضاهم والعجزة الذين لا رجاء ولا عزاء لهم سوى أنهم مطمئنون الى أنهم سوف يغيبون في أرض فلسطين.
هؤلاء الفلسطينيون فاجأتهم مبادرة «حماس» الأخيرة بالتوجه نحو السلطة الوطنية، لإعادة الأمور بينها وبين الحكومة في رام الله الى ما كانت عليه قبل عشر سنوات.
ثم إن هذه المبادرة لم تأتِ من فراغ. فمصر كانت الوسيط، بل كانت الداعية لأركان حركة «حماس» الى الخروج من الحصار الذاتي المطوّق بالحصار الإسرائيلي الذي جعل قطاع غزّة سجناً متعدد وسائل التعذيب للموت الجماعي: الجوع، العطش، العتمة، قطع الأرزاق، شل حركة المصانع، تجفيف المزارع، تعطيل المدارس، تعميم اليأس والمرض.
كل الغزاويين كانوا على عاداتهم، وعلى أصولهم، وقيمهم: أهل إيمان، ومقدرة على الصبر والصمود، وأهل شجاعة، وشهادة، ووفاء، لبلادهم، وشعبهم، وبني قومهم. وهذا ما ضمن لهم البقاء بفائض من القوة والرجاء بانتظار الفرج الذي تأخر نحو عقد من السنوات ليعود، وإن بالتقسيط، لردم هوّة فرّقت بين من لم تفرّقهم حروب إسرائيل.
عقد من الزمن عاشه قطاع غزة، وقد تراكمت مصاعبه بمواجهة العدو الإسرائيلي من جهة، وتحمل من جهة أخرى، أكلاف المعيشة الصعبة، مع الشعور بالحسرة من القطيعة مع الأهل في سائر أنحاء الضفة، وما رافق ذلك من كوارث، وما كلّف أهل غزّة من تضحيات بالدم والأرواح والممتلكات… لذلك ليس من مبالغة في القول أن حركة «حماس» بتوجهها نحو المصالحة مع حركة «فتح» إنما هي ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله، حيث حكومة السلطة الوطنية التي كانت، حتى الأمس القريب، حكومة «فتح» والفصائل المتحالفة معها، وهي الآن صارت حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية.
لقد تحقق هذا الإنجاز في فترة انعقاد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث كان هناك الرئيس محمود عباس، وكان له لقاء مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم 20 أيلول (سبتمبر) الحالي. وكـــانت صورة ذلك اللقاء معبّرة في لقطتها المخادعة، إذ يظهر الرئيس الأميركي جالساً أمام علم الولايات المتحدة باسطاً يده لمصافحة ضيفه الرئيس الفلســـطيني الذي ظـــهر شابكاً أصابع يديه وكأنه ممتنع عن المصافحة! وكان عباس قد خاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة بلغة السلام مع إسرائيل… إذا أرادت الســلام… وإلا فليس للفلسطينيين من خيارات إلا أن يواصلوا الكفاح والمطالبة بحقوق كاملة لكل أهل فلسطين التاريخية، أي بحدود فلسطين من النهر الى البحر.
لكن نكبة غزة يمكن أن تهون إذا عادت «حماس» الى بيت العائلة، وليس الى «بيت الطاعة»، فالإنجاز الذي تحقق في القاهرة يؤشر الى أن كل الفصائل والمراجع تشاركت بالتأكيد النية الحسنة، بالدرجة الأولى، مع الاستعداد التام بصدق وشجاعة وإخلاص للوفاء بعهد جديد لفلسطين على أن الفصائل المتلاقية عازمة بصدق وشجاعة على تحقيق إنجاز وطني جهادي يطوي زمناً طويلاً من النزاع والفوضى والخسائر الجسيمة بالأرواح خارج ساحة القضية.
وما يبعث على الأمل والرجاء أن أصواتاً تعالت من جهة «حماس» تعلن أن الحركة سوف تكون مرنة الى أبعد الحدود، في كل ما يمكن أن يسميه «بعضهم» مصالح حزبية. ولم يعكّر مناخ الوفاق صوت ارتفع من جهة «كتائب القسام» يعلن: سنخضع للسلطة الوطنية الفلسطينية في وقت السلم، أما في وقت الحرب فلا!…
أما «المجلس الثوري لحركة فتح» فقد حرص على تأكيد النوايا الطيبة، مع الاستعداد للعمل على دمج آلاف الموظفين من قطاع غزة في إطار مؤسسات السلطة الفلسطينية.
لكن «حماس» لم تشأ أن تنهي لقاء التوافق والوئام من دون تمرير «معادلة» فحواها: الحكم على سطح الأرض للسلطة والحكم تحت الأرض لـ «حماس»، أي أن الأنفاق سوف تبقى مفتوحة خارج نطاق المراقبة، ومع ذلك تساهلت حكومة السلطة برئاسة رامي الحمدلله، على أمل تقديم الأهم على المهم. والأهم هو إعادة وحدة المؤسسات فوق الأرض، وفتح أبواب المساعدات العربية والدولية لإعادة بناء ما تدمر في غزة، أو ما بالإمكان إعادة بنائه، لأن الدول العربية القادرة على المساعدة، كما الدول الأخرى المتعاونة والمتعاطفة مع الشعب الفلسطيني، لن تقدم أدنى مساعدة لإدارة فلسطينية، أو لسلطة فلسطينية غير مؤهلة لتؤتمن على إعادة بناء ما تهدم، ولو كان مستشفى أو مستوصفاً، أو مدرسة، أو بيت أيتام، أو مأوى عجزة…
ثم إن حمل «حماس» ثقيل على سلطة رام الله المتعبة والمنهكة بما يتراكم عليها من أزمات ليست من صنعها، واستحقاقات ليست ملزمة بها، خصوصاً في قطاع الوظائف الإدارية والأمنية التي أنشأتها «حماس»، وقد تعدى عددها الأربعين ألفاً، من دون سند أو مورد مالي لتغطيتها، وهذه معضلة ليس لها حل لدى حكومة الحمدالله في رام الله.
خلال وجوده في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ظهر رئيس مصر عبد الفتاح السيسي في لقاء مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفي لقاء آخر مع بنيامين نتانياهو رئيس إسرائيل. ولا بدّ أن فلسطين مرّت في اللقاءين اللذين صادفا اجتماعات السلطة و «حماس» في القاهرة. لكن لا بد أن هموم مصر تقدمت على هموم الفلسطينيين.
ولوزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر نظرية سياسية، شبه علمية، في التفاوض على المسائل الدولية الصعبة والمعقدة، كما في طريقة الاقتراب من تلك المسائل ثم المباشرة في البحث عن حلول مشتركة لها بين «الخصمين» أو الأخصام المتفاوضين.
يقول كيسنجر: انظر الى مستنقع مياه راكدة. إنك لن تعرف عمقه، وليس من الضروري أن تعرف إذا كنت لا تريد أن تعبره، أو تغطس فيه. ولكن يمكنك أن تجري عليه اختباراً، فتناول حجراً وارمه في وسط المستنقع بكل ما لك من قوة، وسوف ترى أن الحجر حيث يسقط سيحدث دائرة صغيرة تروح تكبر وترسم دائرة بعد دائرة، الى أن تبلغ الدائرة الأخيرة محيط المستنقع، فتتلاشى، وتعود المياه راكدة.
ويضيف كيسنجر: اعلم أن الدائرة الأقوى والأصعب هي التي تتشكل أولاً في قلب المستنقع، وهي التي تولّد كل الدوائر الأخرى، وأضعفها الدائرة الأخيرة. لذلك إذا أردت أن تعالج مشكلة صعبة فاحذر أن تبدأ من أساسها، بل اقترب أولاً من آخر نتائجها ومضاعفاتها، ثمّ تدرّج من الدائرة السهلة الى الدائرة الأصعب، فإلى الأصعب. وهكذا يمكنك أن تتقدم، وأن تصل الى حل. أما إذا تعثرت، فعليك أن تتوقف عند نقطة معينة ثم تتابع في وقت آخر، وفي ظرف أفضل.
لكن لكيسنجر أيضاً نصيحة لمن يكلفه بالتفاوض مع جانب عربي. فهو يقول له: إذا أردت أن تشتري شيئاً من عربي فاعرض عليه ربع المبلغ الذي يطلبه، لأنه سوف يتنازل لك تدريجياً حتى يقبل في النهاية بالثمن المعروض. أما إذا أردت أن تبيع شيئاً لعربي فاطلب أربعة أضعاف الثمن المحدد، لأنه سوف يجادلك على السعر ويعرض عليك ربع المبلغ المطلوب، وعندئذ يمكنك أن توافق، ولا تخسر!
ولا بدّ أن تتذكر أن هنري كيسنجر، زمن كان وزيراً للخارجية الأميركية، زار عواصم عربية كثيرة، وفاوض على قضايا كبيرة وخطيرة، ولا بد أنه كان الرابح في النهاية لحساب إسرائيل على حساب القضايا العربية.