بليلة في خطبة الجمعة: للإحسانِ إلى النَّفسِ وإلى النَّاس عواقبَ حُلوةَ الجَنى، طيَّبة الثَّمر، كريمةَ الأثر
وسط منظومة متكاملة من الخدمات التي تقدمها الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، أم المصلين لصلاة الجمعة فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور بندر بن عبدالعزيز بليلة مبتدئاً خطبته بحمد الله والثناء على نعمه والصلاة والسلام على نبينا صلى الله عليه وسلم، وتوصية المصلين بتقوى الله.
ثم قال فضيلته: إنَّ ثمَّةَ مقاماتٍ رَضِيَّةً، تبلغُ بأهلها منازل الشَّرف، وتسمو بهم إلى معاقدِ العزِّ، وتبوِّئُهم محلَّ القدوةِ من النَّاس، وتنزِلُ بهم في طريقٍ لاحبٍ من رضوان اللهِ، ومحبَّته سبحانه.
ويأتي في الذِّروةِ من ذلكم يا عبادَ اللهِ: مقامُ الإحسانِ، الذي يُفضِي بصاحبه إلى فعل الأحسنِ والأجملِ على الوجه الأكمل؛ فهو مقامٌ يلتئمُ من الكمال، والجمال.
ولمَّا كان الإسلامُ منبعًا للمكارم كلِّها، كان هذا المقامُ فيه على أتمِّ صُورَةٍ، وأشرفِ حالٍ، وصار فيه عبادةً من أجلِّ العباداتِ، كما قال تعالى: (إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى)، وقال إمام المحسنين صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ كتب الإحسانَ على كل شيءٍ) أخرجه مسلمٌ.
وإنَّ مُبْتدَأَ الإحسانِ: إحسانُ المرءِ إلى نفسِه، بدلالتها على خالقها وربِّها، وتجريدِ التَّوحيد له سبحانه، وعبادتِه على غاية الشُّهود والمراقبة، وتمام الإخلاصِ والمجاهدة، حتَّى يصدُق فيه قوله صلى الله عليه وسلم:(أنْ تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراهُ، فإن لم تكنْ تراهُ، فإنَّه يراك) أخرجه الشيخان.
وبين فضيلته أن: المؤمنُ محسنٌ في صلاتِه التي هي لقاؤه بمحبوبه، ومناجاتُه لربِّه، فيؤديها على غاية الكمالِ: يطمئنُّ في ركوعها وسجودها، ولا يختلسُها اختلاسًا، ولا ينقرُها نقرًا، غيرَ ذاهلٍ عنها، ولا مُشتَغِلِ البالِ بغيرها، بل يؤدِّيها بسكونِ طائرٍ، وخفضِ جناحٍ، وجمعِ خاطرٍ، وتفريغِ لُبٍّ.
وهو محسنٌ في زكاتِه أيضًا، التي هي طُهرةٌ لماله، ونماءٌ لكسبه، ومواساةٌ لإخوته من ذوي الفاقة، فيؤديها إلى أهلها: في وقتها، من غير بخسٍ، راضيةً بإخراجها نفسُه، لا يمنُّ بها، ولا يؤذي طالبَها، ولا يشِحُّ بإتباعها بالتصدُّق المستحبِّ؛ إمعانًا في الجميل، وإبلاغًا في الإحسان.
والمؤمنُ-كذلك- محسِنٌ في صومِه، الذي هو تركُ الشَّهوةِ لله تعالى، فيتعبَّدُ به تعبُّدًا خاصًّا، ويبلغُ به من الإحسانِ إلى أعلى مراتبه، فإنَّه يتركُ أحبَّ الأشياءِ إليه من غير اطِّلاع أقربِ النَّاسِ في ذلك عليه؛ إيثارًا لاطِّلاعِ علَّامِ الغيوبِ، وشهودًا لمراقبته، وهذا هو لبُّ الإحسان وحقيقتُه وجوهرُه، فالصِّيامُ موردٌ من مواردِ تحقيق الإحسانِ أَعْظِمْ به وأَجمِلْ!!
وهو -بَعْدُ- محسنٌ في حجِّه، الذي هو إجابةُ محبٍّ لدعوة حبيبِه، وقصدُ زيارتِه في بيته، فيُتِمُّ جميعَ أعمالِه لله تعالى، مباعدًا للرَّفث، مجانبًا للفسوق، نائيًا عن الجِدال، قد أقبل بكُلِّيَّتِه على مولاهُ، يأنس من نفسه جلالة الـمَزُور، فيتحفَّظُ من أن يراهُ ربُّه في بيته وحَرَمِه، وعلى بساطِ كرَمِه، مُخلًّا بأدبٍ، أو مضيِّعًا لفرضٍ، أو مقصِّرًا في عمل.. فحجُّه مشهَدٌ من مشاهد الإحسان الكبرى، وموقفٌ من مواقفهِ العُظمى.
ثم نوه فضيلته بقوله: أن المؤمنَ يمتدُّ إحسانُه إلى غيره، ويعمُّ من سواه، فإذا استجمعَ خِلالَ الإحسانِ إلى النَّفسِ، دأبَ على ترويضها على الإحسان إلى المخلوقينِ، وأن للإحسانِ إلى النَّفسِ وإلى النَّاس عواقبَ حُلوةَ الجَنى، طيَّبة الثَّمر، كريمةَ الأثر، فأنَّ المحسِنَ ينالُ درجةَ المحبَّة، وينعَمُ بخالِصَةِ المعيَّة، كما قال سبحانه في غير موضعٍ: (إنَّ اللهَ يُحبُّ المحسنين)، (وإنَّ اللهَ لمع المحسنين)، أنَّ رحمةَ اللهِ أقربَ ما تكون من المحسنين، كما قال تعالى ذكرُه: (إنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين)، وأنَّ المحسِنَ موعودٌ بالإحسان والزِّيادة، كما قال جلَّ ثناؤه: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، وقال: (وسنزيد المحسنين)، أنَّ المحسِنَ من أهل البُشرى، قال تقدَّستْ أسماؤه: (وبشِّر المحسنين)، وقال: (لهم ما يشاؤون عند ربِّهم ذلك جزاءُ المحسنين)، ثوابَ المحسنِ محفوظٌ عند الله وإن خفي عن الناس أو جحدوه، قال عزَّ وجلَّ: (إنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجرَ المحسنين)، أنَّ الإحسانَ يُعقِبُ في قلبِ صاحبه لذَّةً لا مِثلَ لها، ولذا قال بعضُ العلماء: (إنَّ أكبرَ لذَّاتِ الدُّنيا هي لذَّةُ الإحسان). ولعلَّ هذه اللَّذَّة داخلةٌ في بشارته تعالى للمحسنين.