الأمين العام للأمم المتحدة.. تاريخ من الضعف والتردد والفشل
ما زالت منظمة الأمم المتحدة ترزح منذ نشأتها تحت وطأة تحكمات الدول الكبرى في مقدراتها، فالمنظمة التي تأسست عام 1945م على أنقاض منظمة “عصبة الأمم” التي فشلت في مهامها وألغيت؛ بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، يبدو أنها ستواجه مصير سابقتها بعد أن استشرى الفساد في أركانها، وأصبحت لا حول لها ولا قوة في مواجهة الأزمات العالمية، واكتفت بالشجب والتنديد، وأحياناً “تسييس” قراراتها والانحياز بدلاً من الحياد الذي أنشئت من أجله، كما لم تعد قادرة على حفظ السلم والأمن الدولي كما جاء في أهدافها.
ويبدو أن أمينها العام الجديد البرتغالي “أنطونيو جوتيريس” لا يختلف كثيراً عن سلفه “القلِق” الكوري الجنوبي “بان كي مون”، الذي كسر الرقم القياسي في الإعراب عن قلقه من تدهور الأوضاع الإنسانية، والأزمات العالمية التي ضربت العالم شرقاً وغرباً، فهو الآخر طاله من الانتقادات ما طاله؛ بسبب أدائه الضعيف، وخضوعه للقوى العالمية، وانحيازه الواضح في أكثر القضايا العالمية. فالرجل الذي شغل منصب رئيس وزراء البرتغال في الفترة (1995- 2002) أقرّها صراحة حين أُعلن اختياره أميناً عاماً للمنظمة الأممية إذ قال: “الأمين العام ليس سيد العالم”، في إشارة واضحة إلى أن القوى الخمس الكبرى في مجلس الأمن الدولي هي التي تتخذ القرارات!
خضوع للقوى الكبرى
وتشير المسيرة التاريخية للأمم المتحدة إلى وجود مساحة خاصة لدور الأمين العام في المنظمة، عليه ألا يتجاوزها لتجنّب المشاكل والضغوط التي قد تعرقل التجديد له، وأصبح من الواضح للجميع أن منصب الأمين العام يقتصر على كونه موظفاً إدارياً لأكبر منظومة عالمية، ويخضع بشكل مباشر للتوازنات الدولية، ولمصالح الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التي تتعارض بشكل كبير مع كون الأمين العام يتمتع بنفوذ سياسي كبير، من أقوى شواهده أن عملية اختيار الأمين العام ذاتها تتم في مجلس الأمن، ثم يتم إرسال توصية بالاسم المختار إلى الجمعية العامة.
وبنظرة عابرة على تجربة الأمناء العموم الثمانية السابقين، سنجد أنه كان هناك محاولة للقليل منهم لتبني ملف إصلاح المنظمة الأممية، والخروج من عباءة القوى الكبرى، إلا أن النتيجة كانت إما القتل، أو إجهاض مشاريعهم، أو الحرمان من التجديد لفترة ثانية، وأشهرهم داج همرشولد، ثاني أمين عام في تاريخ منظمة الأمم المتحدة، والذي توفي في حادث غامض عام 1961م؛ إثر تحطم الطائرة وهو في طريقه لحل نزاع في الكونغو، وتشير التوقعات إلي اغتياله؛ نظراً لمواقفه الحاسمة في عدد من القضايا، التي تعارضت مع مصالح دول كبرى، أبرزها موقفه المعارض للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م. كما سبق وتمت الإطاحة بالمصري بطرس غالي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، التي هددته صراحة بعدم التجديد له لفترة ثانية، عندما أبدى عزمه تجهيز مشروع يتعلق بتجديد المنظمة الأممية، وإلغاء حق الفيتو، كما أكد “غالي” أن واشنطن مارست ضغوطاً غير مباشرة عليه؛ إثر إعداده ونشره تقريراً عن مذبحة قانا 1996م فضح فيه جرائم الاحتلال الصهيوني.
“جوتيريس”: مسيرة من التردد والفشل
لكن الأداء الضعيف للأمم المتحدة لا يرجع سببه فقط لما أوردناه، بل يشترك في ذلك أيضاً ضعف شخصية أمينها العام البرتغالي، وكثيراً ما تم انتقاده علانية على تردده، حيث تلقى “جوتيريس” بعض الانتقادات أثناء عمله رئيساً لمفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة؛ إذ قال بعض المسؤولين السابقين إنه كان يجب أن يتحدث بقوة أكبر دفاعاً عن حقوق اللاجئين المنصوص عليها في اتفاقية عام 1951 التي تخُص حقوق اللاجئين.
وقال أحد المسؤولين البارزين السابقين في الأمم المتحدة في معرض انتقاده لـ”جوتيريس”: “سجله مختلط للغاية، تحديداً فيما يخص الحماية. كانت ولايته فترة عصيبة فيما يخص حماية اللاجئين”، وأشار المسؤول إلى إجبار تايلاند للأويجوريين (وهم أقلية عرقية تركية) على العودة إلى الصين، رغم مخاطرة إعدامهم. وقال إنَّ اتفاقاً ثلاثياً عقدته المفوضية مع كينيا والصومال، بخصوص العودة الطوعية للاجئي الصومال، قد مهَّد الطريق لعملية إعادة اللاجئين لبلدهم، التي قد أُعلن أنَّ كينيا تُجهِّز لها، إذ تهدف لإخلاء أكبر مخيماتها في داداب.
وقال المسؤول السابق إنَّ اتفاق الأمم المتحدة مع تركيا لإعادة اللاجئين، الذي يُعدُّ أيضاً انتهاكاً واضحاً للمبادئ الأساسية لحماية اللاجئين، قد تم التفاوض لعقدِه في عهد جوتيريس” مضيفاً: “يتمثل أسلوب جوتيريس في إصدار تصريحات عامة عن القضية، لكنه لا يطالب الحكومات مباشرة بالتصرف. وهذا يثير القلق حول أدائه المُرتقَب في منصب الأمين العام”.
القفز من السفينة الغارقة
ولكن المتتبع لمسيرة هذا الرجل لا يستغرب من فشله الذريع، ففي ولايته الثانية كرئيسٍ لوزراء البرتغال تراجع الاقتصاد، وأدخل البلاد في دوامة كبرى؛ بسبب سياساته الاقتصادية القائمة على الاستدانة، والعجز في الميزانية، ولم يستطع تغيير دفة الاقتصاد، واستدراك سياساته الخاطئة في الوقت المناسب، لكنه كان بارعاً بالقفز من السفينة، وترك البلاد تغرق في بحر فشله، بإعلان استقالته بشكل مفاجئ في ديسمبر 2001 عقب الهزيمة التي مُنيَ بها الحزب الاشتراكي الذي ينتمي له في الانتخابات المحلية.
الرجل الذي اعتاد الهرب على ما يبدو سبق وأن رفض التقدم بترشيح نفسه رئيساً للمفوضية الأوروبية، بعد محاولات قادها جاك ديلور الرئيس السابق للمفوضية بنفسه ليخلفه البرتغالي في المنصب إلا أنه خذله، على الرغم من تأييد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي له، وتأكيد جاك ديلور نفسه بأنه أفضل المرشحين لخلافته!
وفي عهده كرئيسٍ للوزراء، حدثت أحد أكبر الكوارث التي ضربت البرتغال في العصر الحديث، وهي “كارثة هينتز ريبيرو” في عام 2001م؛ حيث انهار جسر هينتز ريبيرو، المصنوع من الصلب والخرسانة، في إنتر- أوس- ريوس، وكاستيلو دي بايفا، مما أسفر عن مقتل 59 شخصاً، كانوا في حافلة، وثلاث سيارات كانت تعبر الجسر المقام على نهر دورو، مما أدى إلى استقالة وزير النقل، بينما بقى “جوتيريس” ربما ليستكمل إدارته الضعيفة!
عُرف عن “جوتيريس” أيضاً فشله في إدارة ملفات مصرف (الصندوق العام للإيداعات) وهو البنك الحكومي الوحيد في البرتغال، بعد أن عُين مستشاراً له بعد استقالته من رئاسة الحكومة البرتغالية، كما يؤخذ عليه التردد والفوضى طوال مسيرته السياسية، وفي تعاطيه مع الملفات المحلية أثناء فترة توليه زمام الأمور في البرتغال، وعدم امتلاكه الشجاعة الكافية لمواجهة أعضاء حكومته عندما كان يقوم بإجراء تعديلات وزارية، إضافة إلى عدم توافقه مع أعضاء حزبه الاشتراكي على تحرير قوانين منع الإجهاض، فصوّت ضد رؤية حزبه في تصرف غريب آنذاك!
كما سبق وأن انتقده الرأي العام البرتغالي بسبب طريقة معالجة حكومته لبعض الموضوعات الداخلية، وتراجعها عن قرارات سبق اتخاذها مثل إنشاء محطات لمعالجة النفايات ومنع مصارعة الثيران في بعض مناطق البرتغال.
ولا يمكن أيضاً بأي حال من الأحوال إهمال فشله الذريع في التعامل مع القضايا الإنسانية الملحة لجماعة الروهينجيا المضطهدين، وإهماله للقضية الفلسطينية، وانحيازه للجانب الصهيوني بقوله: “من الواضح تماماً أن الهيكل الذي دمّره الرومان في القدس كان هيكلاً يهودياً”، في إشارة إلى الهيكل الذي يدّعي الصهاينة وجوده تحت المسجد الأقصى، وهو ما أثار استياء العالم الإسلامي.