خطبة الجمعة من المسجد الحرام
أدى جموع المصلين صلاة الجمعة في جنبات المسجد الحرام وسط منظومة متكاملة من الخدمات والترتيبات التي أعدتها الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي لاستقبال المصلين والعمّار وتوفير كافة الخدمات لهم كي يؤدوا عبادتهم بكل يسر وخشوع.
وقد أمّ المصلين معالي الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس وقال إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ تَقَدَّسَ ذَاتًا وَصِفَات وَجَمَالاَ، وَعَزَّ عَظَمَةً وَعُلُوًّا وَجَلاَلاَ.
لَكَ الحَمْـدُ حَـمْداً طَيِّـباً وَمُبَارَكًا لَكَ الحَمْدُ مَوْلاَنَا عَلَيْكَ المُعَوَّلُ
لَكَ الحَمْدُ أَعْلَى الحَمْدِ وَالشُّكرِ وَالثَّنَا أَعَزُّ وَأَزْكَى مَا يَكُونُ وَأَفْضَلُ
وَأَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً تَعْنُو لَهَا القُلُوبُ خُضُوعًا وَامْتِثَالاً. وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ عَظَّمَ اللَّهَ أَقْوَالاً وَفِعَالاَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ الأُلَى دَامَ فِيهِمْ الفَضْلُ هَطَّالاَ، وَصَحْبِهِ الذَّائِدِينَ عَنِ الإِسْلاَمِ كُمَاةً أَبْطَالاَ. وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مَا تَعَاقَبَ النِّيرَانِ وَتَوَالاَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مُبَارَكًا سَلْسَالاَ.
معاشر المسلمين: في زَمَنِ الانْفِتَاح الإعلامِي العَالَمِي المُبْهِر، بِفَضائِيَّاتِهِ، وتِقَانَاتِه، وعولمته وشَبَكَاتِه، وطَوَارِفِهِ ومُخْتَرَعَاتِه، لا بد لِكُلِّ حَصِيفٍ لَوْذَعِيّ، وأريبٍ ألمعيّ من منهج صَرْدٍ وضَّاء، يستبين به الطريق؛ لينأى عن الفهم السقيم، ويرقى إلى الدَّرَجِ السليم، ويتدرجُ في مدارج السالكين إلى رب العالمين، وأنَّى له ذلك إلا بإيمانٍ راسخٍ، وعقيدةٍ صحيحةٍ ثابتةٍ كعقيدة السلف الصالح ، في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :”من كان مُسْتَنًا فَلْيستن بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤْمَنُ عليه الفتنة، أولئك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها عِلمًا، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه”، وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اتباع لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله تعالى وقوة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو المهتدي، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولَّاه الله ما تَوَلّى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا”، وصَحَّ عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها”.
أيها المسلمون: إن أول مَعْلَمٍ من معالم عقيدة السلف الخالصة النقية : العناية بالتوحيد الخالص لله تعالى، قال تعالى:﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم :”إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى” أخرجه البخاري، وتوحيده سبحانه وتعالى يشمل ؛ توحيد الألوهية والربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات ، ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، ومع ما للتوحيد من مكانة جلّى، فإن الحفاظ عليه وتحقيق شروطه ومقتضياته لاسيما في مجال التطبيق وميادين العمل وساحات المواقف، يُعدُّ المقصد الأعظم في الحياة كلها، إذ أعظم مقاصد الشريعة الغراء حفظ الدين وجودا وعدما، وحراسة العقيدة من كل ضروب المخالفات وأنواع الشرك والبدع والمحدثات.
وقال معاليه: إن أركان اعتقاد السلف رحمهم الله هي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره؛ ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد ج من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تَكْيِّيفٍ، ولا تمثيل؛ بل يؤمنون بأن الله سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. فلا يَنْفُون عنه ما وصَفَ به نفسه، ولا يُحَرِّفُون الكَلِمَ عن مَوَاضِعِه، ولا يُلْحِدُون في أسماء الله وآياته، ولا يُكَيِّفُون، ولا يُمَثِّلُون صفاته بصفات خَلْقِه؛ لأنه سبحانه لا سَمِيّ له، ولا كُفْوَ له، ولا نِدَّ له.
ثم إن الإيمان عند السلف رحمهم الله قولٌ وعمل واعتقاد، قولٌ باللِّسَان وعمل بالأركان، واعتقاد بالجَنَان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياة شعبة من الأيمان” أخرجه مسلم. فجعل القول والعمل من الإيمان قال تعالى: ﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾، وقال سبحانه: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا﴾، فالإيمان يزيد بالعمل وينقص ويذبل ويضمحل بالمعاصي والذنوب.
وأضاف أمة الإسلام: عقيدة السلف عقيدة وسط بين الإفراط والتفريط، فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى. وفي باب وعيد الله، وفي باب أسماء الإيمان والدين. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من صفات الرحمن وجب الإيمان به وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل، والتشبيه والتمثيل، وما أَشْكَلَ من ذلك وجب إثباته لفظا وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعًا لطريق الراسخين في العلم، الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى:﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾، وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله:﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾، فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذَّمِّ، ثم حجبهم عما أَمَّلُوهُ وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه:﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾.
والله سبحانه فوق سماواته على عرشه، عليٌّ على خلقه، وهو معهم أينما كانوا، القرآن الكريم كلامه، مُنَزَّلٌ غير مخلوق، ومن تمام اعتقاد السلف رحمهم الله الإيمان بالحشر وتطاير الصحف ونشر الدواوين ووضع الميزان للخلائق والصراط والشفاعة، وأن الجنة والنار مخلوقتان، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر.
وفي باب الجماعة والإمامة، يلزمون الجماعة والإمامة، ويدينون بالسمع والطاعة خلافا للخوارج المارقين ، قال الإمام الطحاوي رحمه الله:” ونرى الجماعة حقا وصوابا والفرقة زيغا وعذابا”، وقال أيضا رحمه الله: “ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدًا من طاعتهم، فإن طاعتهم من طاعة الله عز وجل، فريضة؛ ما لم نؤمر بمعصية وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة”، وقال الإمام أحمد رحمه الله:” لو كانت لي دعوة مستجابة لصرفتها للإمام” ، ولا يُكفرون أحدا بذنب ما لم يستحله، فيحاذرون التكفير والتفجير والتدمير، وينهجون الإجلال للعلماء الربانيين، قال الإمام الطحاوي رحمه الله: “وعلماء السلف من السابقين ومَنْ بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل”، ومن المعالم اللألاءة لعقيدة سلفنا رحمهم الله الأخوة في العقيدة والمنهج قال تعالى:﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وإن ائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الأهداف والمناهج من آكد تعاليم الإسلام، وألزم صفات المسلمين المخلصين، يقول تعالى:﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، ويقول جل وعلا:﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾، فلا حزبية ولا مذهبية ولا طائفية ولا عصبية ولا عنصرية ، وإنما دعوة للاعتصام وترك الانقسام وإظهار للرحمة والتسامح وترك للعنف والتناطح وتعزيز للحوار والتناغم ونأي عن الصراع والتصادم، هذا مجمل اعتقاد سلفنا الصالح رضوان الله عليهم ورحمته جل وعلا عليهم.
وفي الخطبة الثانية تحدث معالي الرئيس العام وقال إخوة الإيمان: ونحن في بداية عام دراسي جديد ندعو المعلمين والمعلمات إلى الاهتمام بعلوم العقيدة، وترسيخ عقيدة السَّلف الصَّالح رحمهم الله في نفوس الناشئة قولاً واعتقادًا، واستثمار التقانة والإعلام الجديد واللغات بنشر هذه العقيدة الخالصة الصافية، وتعزيز منهج الوسطية والاعتدال، ومكافحة التطرُّف والإرهاب؛ لننعم جميعًا بالأمن والإيمان والأمان.
ومن الأخوة الصادقة الدعوة إلى التضامن الإسلامي والاهتمام بقضايا المسلمين وعلى رأسها قضية فلسطين؛ فهي قضية المسلمين الأولى، ولها مكانتها الدينية والتاريخية، ولهذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها مواقفها الثابتة تجاه دعمها وإحلال الأمن والسلام في ربوعها، فهي في ضمير الأمة ووجدانها، وتأتي دعوة المملكة حرسها الله لاجتماع عاجل لوزراء خارجية دول منظمة التعاون الإسلامي لتؤكد حرص بلاد الحرمين حرسها الله على هذه المعاني السامية للأخوة والتضامن الإسلامي في شتى ربوع المعمورة، وتؤكد أن قضية القدس في قلب ووجدان خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وكل أبناء المسلمين.
حفظ الله بلاد الحرمين الشريفين، ومقدسات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من كل سوء ومكروه، ورد كيد الكائدين، وشرور المعتدين، إنه سميع مجيب.