نظرة في كتاب الجانب السياسي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم للدكتور أحمد حمد
يسلط كتاب ” الجانب السياسي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم” للدكتور أحمد حمد ، الكثير من الضوء على الجانب السياسي من حياة الرسول صلى الله عله وسلم، ويتناول الدكتور أحمد حمد مفهوم السياسة والفارق بينها في وقت الرسول وفي وقتنا الحالي وذلك حتى يحيط القارئ بظروف العصر ومدى الاختلافات، ويبدأ بعد ذلك في تناول سياسة الرسول في محيط الأسرة، وسياسته في نشر الدعوة وهنا يتحدث عن الدعوة الفردية ودار الأرقم والهجرة للحبشة وحادثة المقاطعة وينتقل بعد ذلك لتناول سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدولة ويحدثنا هنا عن العرض على القبائل، وعن المجتمع الجديد، والمكان وأهميته، ومعالجة المشكلات التي طرأت مع بداية الهجرة، وقواعد دستور الدولة الجديدة، ونظام الحكم والشرطة والجيش والتصنيع والخدمات والمال، وغير ذلك من التفصيلات الهامة، ويختتم المؤلف باستعراض سياسة الرسول على المستوى الدولي.
1 ) مفهوم السياسة:
كلمة السياسة مصدر للفعل (ساس) ومضارعه (يسوس)، واستخدم (لسائس) الخيل أي من يرعى شؤونها، فالمعنى اللغوي لكلمة السياسة هو رعاية الشؤون، واستخدم الإسلام هذا اللفظ بمعناه مضيفاً إليه ضوابط الرعاية ومجالها، والأساس الذي تستند عليه، فأصبح المعنى الشرعي لكلمة (السياسة)، رعاية شؤون الأمة داخلياً وخارجياً بحسب أحكام الإسلام، وقد ورد هذا اللفظ بهذا المعنى في حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (لقد كان من قبلكم تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، إلا أنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول فإن الله سائلهم عما استرعاهم … أو كما قال صلوات ربي وسلامه عليه.
2 ) سياسة الرسول في محيط الأسرة :
كانت حياته الزوجية تطبيقا لمعنى الآية الكريم: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم : 21) فيقول صلى الله عليه وسلم “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” . فكان صلى الله عليه وسلم لزوجاته الزوج الحبيب، والصاحب الأنيس، والصديق الوفي، والموجه الأمين، والجليس الناصح، وكان يمازح زوجاته ويداعبهن، ويدخل البهجة والفرح لقلوبهن، ويسمع شكواهن، وينصت لكلامهن، ويحلم ويصبر عليهن، ويكفكف دمعهن، ويحسن إليهن، فلا يؤذيهن بلسانه، ولا يجرح مشاعرهن بكلامه، ولا ينتقص منهن، ويمدحهن ويثني عليهن، ويتبادل معهن السمر بالأحاديث الخفيفة، والقصص الجميلة، ذات الموعظة الحسنة، ويعترف بالجميل لهن حتى بعد وفاتهن، فلم تشغله دعوة الناس، وهموم الأمة، ومتطلبات المجتم، من أن يعطي شريكات عمره حقهن.
وحديث الكاتب عن حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الزوجية ، الغاية منه أن نستظل تحت جناح سيرته العائلية والأسرية.
3 ) سياسة الرسول في نشر الدعوة :
سياسته صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة . فكل دعوة تتطلب لوناً من الفن في جذب الناس إليها، ومعرفة عميقة بواقع الذين سيبلّغون بها . فإذا كانت الدعوة هي دعوة الإسلام، التي بلغت من سموّها وجلالها أنها جامعة دعوات الحق وخاتمة الرسالات إلى الخلق، وكان القوم الذين سيبلغون بها قوماً قست قلوبهم، فإن سياسة نشرها بينهم تتطلب داعية له من الخصائص ما يندر وجوده إلا في القليل النادر من عظماء البشر .
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الداعية . فقد كانت استعداداته النفسية والقلبية والعقلية على مستوى التبعة الملقاة عليه .
الدعوة الفردية :
اللقاء الفردي في مبدأ الدعوة أمر تقتضيه السياسة الحكيمة . ولذلك بدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة الفردية، فآمنت به زوجته خديجة وابن عمه علي وصديقه أبوبكر . واستمر اللقاء الفردي طوال ثلاث سنوات، حتى أذن الله بإعلان الدعوة والجهر بها .
وليس من حكمة الداعية أن يترك الأفراد الذين يدعوهم إلى الإسلام دون تنظيم يؤلف بينهم ولقاءات دورية تقوي روابط الأخوة في نفوسهم . ثم إن هناك تعاليم تنزل عن طريق الوحي يجب تبليغها إليهم . أضف إلى ذلك أن التجميع يشعر كل فرد أنه ليس وحده في الميدان . وقد اختار الرسول دار الأرقم بن أبي الأرقم لأسباب عدة وهي: أنها اتسمت بطابع الخير ولقاءات الحق، ولأنها اكتسبت شيئاً من التقديس لقربها من الكعبة، ولأن صاحبها عُرف بين الجميع برجاحة عقله وعلو منزلته .
إن التفكير النبوي في اختيار دار لعقد اللقاءات الدورية لمن أشهروا إسلامهم كان أمراً جديداً وعملاً فريداً يدل على بلوغ الذروة في النضج السياسي حيال الدعوة .
–
4 ) دار الأرقم :
كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم تقع على جبل الصفا قريبة من الكعبة، وكانت بمثابة أول مركز إسلامي تنطلق منه الدعوة المحمدية، فهي الدار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس فيها مع الصحابة يقيمون صلاتهم، وتلقوا فيها عن النبي تعاليم الإسلام وتوجيهاته الكريمة، وفيها كان صلى الله عليه وسلم يتلو على أصحابه ما ينزل عليه من القرآن الكريم، ويعلمهم أمور دينهم ويباحثهم في شأن الدعوة، وموقف المعرضين عنها، وبقي رسول الله يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم حتى أصبح عدد المسلمين أربعين رجلاً، فخرجوا يجهرون بالدعوة إلى الله، فكانت أول دار للدعوة إلى الإسلام. واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته السرية وتربيته لأصحابه في دار الأرقم، حتى أصبحت هذه الدار أعظم مدرسة للتربية والإعداد عرفها التاريخ .
لقد كانت دار الأرقم أول مركز دعوي إسلامي ، انطلقت منه الدعوة ، واجتمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يعلمهم ويزكيهم .
5 ) الهجرة للحبشة :
حين اشتد العذاب بأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وضاقت بهم السبل، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة “فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه”، فخرج فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة؛ مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.
وتفكير النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحبشة ينطوي على معرفة واسعة للنبي الكريم بأحوال شبه الجزيرة العربية، واتجاهاتها السياسية، فلم يكن هناك مكان أصلح للحماية والإيواء من الحبشة، فالقبائل العربية تربطها بقريش علاقات وثيقة، وروابط متينة تمنعها من استقبال هؤلاء المسلمين إذا ما فكروا في الهجرة إليها، وبلاد اليمن غير مستقرة يتنازعها التنافس بين الفرس والروم، والصراع بين اليهودية والنصرانية، ولم تكن أي مدينة من مدن الجزيرة العربية تصلح أن تكون مكانًا مناسبًا لإيوائهم، حتى يثرب نفسها التي استقبلت النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك، وأقام بها دولته –لم تكن تصلح هي الأخرى في هذا الوقت لاستقبال المهاجرين، حيث كانت تمزقها الخلافات الداخلية، والصراعات بين قبائلها. وكان جملة من هاجر إلى الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً.
6 ) حادثة المقاطعة :
حاولت قريش كبح جماح الدعوة بالتفاوض مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّ رسول الله كان ثابتاً كما عوّدهم، ولم يداهنهم على باطلهم، وممّا دفع قريش لرفع مستوى العداء، شعورهم بخطورة الموقف بعد أن التفّ بنو المطلب وبنو هاشم مسلمهم وكافرهم حول رسول الله؛ لحمايته، والدفاع عنه من بطشهم، فاجتمعوا في خيف بني كنانة، من وادي المحصب، لا على قتل محمّد عليه الصلاة والسلام، فقتله قد يؤدّي إلى استئصالهم، وهدر دمائهم، ولكنّهم لجأووا إلى أسلوبٍ جديدٍ من الصدّ والعداء بإعلان مقاطعة بني هاشم، وبني عبد المطلب، فاتفقوا على ألّا يُناكحوهم، ولا يُبايعوهم، ولا يُخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلّموهم حتى يسلّموا محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- للقتل، وكتبوا ذلك في وثيقة في السنة السابعة للبعثة، وعلّقوها في جوف الكعبة، ويُقال أنّ كاتبها كان بغيض بن عامر بن هاشم، فدعى عليه رسول الله فشُلّت يده. ثمّ انحاز بنو هاشم وبنو المطلب كلّهم إلى شِعَب أبي طالب إلّا أبو لهب، واستمرّت المقاطعة ثلاث سنوات، كانت عِجافاً، حتى إنّهم أكلوا أوراق الشجر، وجلود الحيوان من قلّة الطعام، وكان يُسمع بُكاء أطفالهم ونسائهم من شدّة الجوع، وكانت قريش تشدّد الحصار برفع أسعار السلع التي تأتي من خارج مكّة حتى لا يستطيعون الحصول عليها، ولم يكن يصل إليهم شيء إلّا سرّاً، حيث إنّ حكيم بن حزام كان يُدخل القمح لعمّته خديجة -رضي الله عنها- سرّاً، وكان أبو طالب شديد الحرص والخوف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان يأمر أحد أبنائه بتبديل مكان نوم الرسول -عليه الصلاة والسلام- بمكانه؛ خشية أن يغدره أحد من المشركين وهو نائم، واستمرّت مُعاناتهم، واستمرّ الثبات إلى أن أذن الله -تعالى- بفكّ الحصار عنهم.
7 ) إقامة الدولة :
ظهرت التجليات السياسية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعماله السياسية الكثيرة، حيث بدأ بإرساء قواعد أول دولة سياسية قائمة على العقيدة الإسلامية، فبنى المسجد، وجعله مقراً لرئيس الدولة، فيه يعقد مجلس الحكم، ومجلس القضاء، ومجلس الشورى، ومجلس إدارة شؤون الدولة، ومجلس العلم والتعليم، فضلاً عن وظيفته الأساسية التي هي الصلاة والاعتكاف وملتقى المسلمين، يبحثون فيه شؤونهم.ثم أصدر صلى الله عليه وسلم الصحيفة التي تنظم العلاقات بين المسلمين في المدينة المنورة.
فبهذه الصحيفة نظم الرسول صلى الله عليه وسلم علاقات أهل المدينة بعضهم ببعض، ونظم وضع القبائل المجاورة للمدينة من اليهود، فاشترط عليهم ألا يخرجوا من المدينة إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم، رئيس الدولة، وحرم عليهم انتهاك حرمة المدينة بحرب أو نصرةٍ على حرب، وحرّم عليهم أن يجيروا قريشاً ولا من نصرها، وأي خلاف ينشب فإن الحكم فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفه رئيساً للدولة المدنية.
ومن تجليات السياسية النبوية، رعاية شؤون الداخل، كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كانت من خير الأمثلة على حسن رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم لشؤون الأمة، شؤون الدولة الجديدة الفتية، فأرسى دعائمها لتقوم بوظيفتها وهي حمل الإسلام إلى الناس كافة بالدعوة والجهاد.
كما أشار الكاتب إلى مرحلة ما بعد صلح الحديبية . فقد جاء صلح الحديبية، الذي كان من أكبر المناورات السياسية، حيث نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحييد قريش عن ساحة الصراع المادي ليتفرغ لأمرين:
1 – ليتفرغ لباقي الكيانات السياسية في الجزيرة العربية، ليضمها إلى جسم الدولة الإسلامية.
2 – ليعلن الدولة الإسلامية دولة كبرى في العالم، تؤثر في الموقف الدولي، بل تزاحم الدول الكبرى آنذاك، دولتي الفرس والروم، حيث تفرغ صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية لمخاطبة الدول العظمى في زمنه، وإرسال الرسائل للملوك والأمراء والكيانات السياسية الأخرى، وذلك ليبين للمسلمين أن وظيفة هذه الدولة الأساسية إنما هي تطبيق الإسلام في الداخل وحمل الإسلام إلى الناس كافة.
ثم جاء فتح مكة، وتلاه عام الوفود الذي كان ضمّاً فعلياً للكيانات السياسية الموجودة في الجزيرة العربية إلى كيان دولة الإسلام، وهذا يعني امتداد دولته صلى الله عليه وسلم، وازدياد قوتها، مما وضعها في مصافّ الدول العظمى في ذلك الزمان قبل أن ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وبناء على ما ذهب اليه الكاتب الدكتور أحمد حمد في مؤلفه ، تبرز أعمال محمد صلى الله عليه وسلم السياسية، ويمكن تصنيفها كما يأتي:
1 – 1 تنظيم العلاقات في المجتمع المدني، مجتمع المدينة المنورة الدولة الإسلامية.
2 – تنظيم علاقة المسلمين بغيرهم من القبائل الأخرى المجاورة للمدينة المنورة من اليهود.
3 – بيانه صلى الله عليه وسلم لقواعد نظام الحكم في الإسلام، وبيانه لأجهزة الدولة الجديدة
4 – رعاية شؤون المسلمين في الداخل بأحكام الإسلام
2- العلاقات الدولية من معاهدات ومفاوضات، وجهاد لنشر دعوة الإسلام، ومناورات سياسية، والارتقاء بدولة الإسلام من دولة ناشئة فتية، إلى كيان سياسي تعترف به الجزيرة العربية، ويعترف به أكبر كيان سياسي في الجزيرة آنذاك وهو كيان مكة، ثم الارتقاء بهذا الكيان السياسي ليكون في مصاف الدول العظمى، فيزاحم الدولتين العظميين: الروم والفرس ليأخذ منهما بعد ذلك مقعد الصدارة، ومكانة الدولة الأولى في العالم.
و من الملاحظ أن سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم تميزت بالخصائص التالية:
أ- انبثاق سياسته صلى الله عليه وسلم من العقيدة الإسلامية، حيث ظهر أن أعماله السياسية كافة هي أحكام شرعية، يتقرّب بها إلى الله تعالى.
ب- تميز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوعي السياسي، أي الإحاطة بالواقع السياسي للكيانات السياسية الموجودة في زمنه صلى الله عليه وسلم، ومعرفته صلى الله عليه وسلم بالقبائل وأنسابها، حتى إنه كان يرجع في معرفة القبائل وأنسابها لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان من كبار نسّابي العرب.
ج- رعاية الشؤون كانت هي الميزة التي اتصفت بها سياسته صلى الله عليه وسلم، حيث إن أعماله السياسية عادت نتائجها على الأمة الإسلامية بالخير والازدهار في الداخل والخارج، ولم يتحيز صلى الله عليه وسلم لنفسه أو لقرابته مثلاً، بل إن عائد أعماله كان يصب في مصلحة المسلمين كافة.
لقد خط رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين ولأمة الإسلام من بعده هذه الخطوط السياسية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية ليسير عليه المسلمون من بعده، وقد سار عليها الصحابة الكرام عليهم رضوان الله، وتابعوهم، وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين، واستمر المسلمون يحملون الإسلام حملاً روحياً وحملاً سياسياً لأن عقيدة الإسلام عقيدة روحية سياسية.