مداخلة الدكتور خالد الشرقاوي السموني مدير مركز الرباط للدراسات السياسية و الاستراتيجية
يأتي اختيار موضوع المداخلة حول “الأدوار الثقافية للمجتمع المدني في تعزيز السلم و الحوار” لطرح الأهمية الاستراتيجية للثقافة في إشاعة قيم الحوار و العدل و السلم باعتبارها قيما إنسانية وكذلك دور المجتمع المدني في تنزيل هذه المبادئ على مستوى الممارسة .
فمنذ علان برشلونة عام 1995 ، أصبح إشراك المجتمع المدني في بلورة السياسات الثقافية أحد اهتمامات المجتمع الدولي من خلال الدعوة إلى تفويت جزء من تدبير الشأن الثقافي من الحكومات إلى المجتمع المدني ، باعتباره أداة قادرة على تخفيف أعباء هذه الأخيرة ، خصوصا في ظل ما يعرفه العالم من تحولات وانتقالات نحو الديموقراطية وتعزيز منظومة حقوق الانسان والمطالبة بمزيد من مشاركة الشباب و النساء في إبداع نموذج للمواطنة .
وفي هذا الإطار ، أصبح للمجتمع المدني القدرة على حشد وتأطير فئات واسعة من المجتمع وترسيخه لقيم التسامح والتعايش بين مختلف أطيافه، كما يعد أداة فعالة لإشاعة ونشر هذه المبادئ، من خلال تنظيمه لعدد من الملتقيات الثقافية والفكرية التي دأب على تنظيمها سنويا.
فما هو الدور الذي تلعبه مؤسسات المجتمع في إشاعة وتعزيز ونشر ثقافة الحوار والتسامح والسلام.
وستتناول المداخلة الأدوار الثقافية المهمة التي يمكن للمجتمع المدني القيام بها في تعزيز الحوار و السلم ، من خلال المحاور التالية :
● الجهود الدولية لتكريس مبدأي الحوار و السلم،
● جهود المغرب في ترسيخ قيم التسامح و الحوار بين الأديان و السلم ،
● مفهوم المجتمع المدني و أهمية دوره في خلق جسور التعاون بين الشعوب و تعزيز الحوار بين الأديان ،
● المبادرات الثقافية و الفنية لنشر ثقافة السلم التعايش وقبول الأخر.
المحور الأول : الجهود الدولية لتكريس مبدأي الحوار و السلم
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ارتفعت الأصوات التي تنادي بتعزيز ودعم ثقافة السلام ، وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أصدرت في 20 نوفمبر 1997م قرارها باعتبار سنة 2000 هي “السنة الدولية لثقافة السلام”، كما تبنت في 10 نوفمبر 1998م قرارها باعتبار العقد الأول من القرن الجديد (2001 – 2010) هو” العقد الدولي لثقافة السلام و اللاعنف لأطفال العالم”. وفي 6 أكتوبر 1999م أصدرت الجمعية العامة إعلان ثقافة السلام، الذي أعتبر دليلا لإرشاد الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع الدولي من أجل دعم وتعزيز ثقافة السلام.
لقد اتسعت الدعوة لتعزيز ثقافة السلام لتشمل كل دول العالم، بما في ذلك الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، وكافة المنظمات والهيئات ذات العلاقة على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية.
وظهر مصطلح حوار الحضارات منذ سنة 1961 . غير أن السجال الفكري حول مفهوم الحوار أخذ بعدا سياسيا منذ نشر صامويل هنتنغتون أطروحته حول ” صراع الحضارات ” سنة 1993 ،و هو ما دفع الحكومات إلى مواجهة هذه الأطروحة لتناقضها الجوهري مع مفهوم التنوع الثقافي الذي يميز أغلب المجتمعات . و توجت هذه الجهود بإعلان الأمم المتحدة سنة 2001 سنة الحوار بين الحضارات . و هي السنة التي عرفت اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة ” جدول الأعمال العالمي للحوار بين الحضارات ” و الذي جعل المجتمع المدني و خصوصا الشباب و المرأة من أهم وسائط العمل لتفعيل الحوار.
المحور الثاني : جهود المغرب في ترسيخ قيم التسامح و الحوار بين الأديان و السلم ،
إن تاريخ المغرب ومبادراته وتشريعاته تؤكد انخراطه التام في الجهود الدولية الهادفة إلى ترسيخ قيم التسامح ومناهضة مختلف أشكال الميز والتعصب، كما أن المجتمع المدني ، مجتمع حيوي وقادر على ترسيخ قيم التسامح والتعايش مع الآخر.
ونشير في هذا الصدد أن أسباب عدد من النزاعات التي تندلع في بقاع المعمور تجد جذورها في بيئة تسودها الكراهية ونبذ الآخر المتمخضة عن سوء الفهم والتعصب الديني والإحساس بالظلم، والميز العنصري وعدم التسامح والذي أصبح يطبع بعض الفئات في عدد من المجتمعات ويؤدي إلى التصادم والنفور وأحيانا إلى العنف.
لقد كانت المملكة المغربية دائما أرضا لتلاقح الثقافات والحضارات المتعددة ، وملتزمة بمبادئ وقيم التعايش السلمي بين مختلف الأطياف والأديان، ومواكبة للمجهودات الدولية في هذا الميدان، مع الإشارة إلى انضمام بلادنا، وبتوجيه قوي من جلالة الملك محمد السادس ،إلى عدة مبادرات ومشاريع الهدف منها تكريس ثقافة الحوار.
ومما يؤكد ما سبق ذكره، الرسالة الملكية التي بعثها جلالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في الدورة الثانية للمؤتمر الدولي لحوار الثقافات والأديان، التي نظمتها وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بتعاون مع المنظمة الدولية للفرنكفونية ، وذلك من 10 إلى 12 شتنبر 2018 بفاس، حول موضوع “سؤال الغيرية” ، حيث جاء فيها :
” فالنموذج المغربي يتميز بتفرده على المستوى الإقليمي، من حيث دستوره، وطبيعة واقعه الثقافي، وتاريخه الطويل، الذي يشهد على تجذر التعايش، لاسيما بين المسلمين واليهود في أرضه، وانفتاحه على الديانات الأخرى.
إن هذا النموذج الأصيل الذي يستمد مرجعيته من إمارة المؤمنين ومن المذهب السني المالكي، شهد جملة من الإصلاحات العميقة. فهو يستهدف تحصينَ المجتمع المغربي من مخاطر الاستغلال الإيديولوجي للدين، ووقايتَه من شرور القوى الهدامة، من خلال تكوين ديني متنور متشبع بقيم الوسطية والاعتدال والتسامح.
فلا فرق في المغرب بين المواطنين المسلمين واليهود، حيث يشارك بعضهم بعضاً في الاحتفال بالأعياد الدينية. كما يؤدي مواطنونا اليهود صلواتهم في بِيَعهم، ويمارسون شعائرهم الدينية في أمن وأمان، لاسيما خلال احتفالاتهم السنوية، وأثناء زياراتهم للمواقع الدينية اليهودية، ويعملون مع أبناء بلدهم من المسلمين من أجل صالح وطنهم الأم.
لقد أبان المجتمع المغربي عبر التاريخ، عن حس عالٍ من التفاهم المشترك وقبول الآخر، في التزام ثابت، بضرورة الحفاظ على الذاكرة المشتركة للتعايش والتساكن بين أتباع الديانات الثلاث، خاصة خلال الحقبة الأندلسية.
فالمغرب كان دائما وسيظل ملتزما بنهج إسلام معتدل يقوم، بحكم جوهره، على المبادئ الكونية السامية، ومن ضمنها قيم التسامح والحوار. فالدين الإسلامي الحنيف يقوم على تقبل الآخر وعلى الوسطية، وينبذ الإكراه، ويحترم التعددية، تماشيا مع المشيئة الربانية، إذ يقول الله تعالى في سورة المائدة (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)”
المحور الثالث : مفهوم المجتمع المدني و أهمية دوره في خلق جسور التعاون بين الشعوب و تعزيز الحوار بين الأديان
إن أقرب تعريف للمجتمع المدني أنه تلك القوى الجمعوية الحية والفاعلة والنشطة في المجتمع التي تعمل في إطار ثقافة الحرية والحوار والتسامح والسلام ، والتي تسهم بشكل كبير في إثراء الجانب الديمقراطي .
وخلق هذه الثقافة قد يكون بواسطة المنشورات أو المؤتمرات أو الندوات و الملتقيات الفكرية أو المنابر إعلامية أو الأنشطة الثقافية و الفنية أو أي قالب آخر تقيمه وتنظمه مؤسسات المجتمع المدني وتقدمه للمجتمع.
وثقافة الحوار والتسامح والسلام لا يمكن أن تكون أو تتم عن طريق جهة واحدة ، باعتبار أنها مرتبطة مع كل الهيئات و المؤسسات الأخرى بدءاً من الأسرة ومروراً بالمجتمع بما فيه من أعراف وعادات وتقاليد وقوانين وانتهاءً بالدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها.
إن دور مؤسسات المجتمع المدني في تعزيز وإشاعة ثقافة الحوار والديمقراطية والتسامح والسلام مهم جداً وحاجة مُلحة، ذلك لأنها نتيجة طبيعية لهذه الثقافة السليمة والديمقراطية . فعندما تمارس دورها بشكل صحيح فإنها تسهم في إثراء الديمقراطية والحوار من خلال أداء متميز يعكس ممارستها لثقافة الحوار داخلها أولاً ثم في واقعها الاجتماعي ثانيا .
كما أن أهمية تفعيل دور الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز ثقافة اللاعنف في المجتمع وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني للقيام بأنشطة وبرامج ، تسهم في تعزيز نشر ثقافة الحوار و السلم وعدم استخدام الدين وتوظيفه كمحرك في قضايا العنف والإرهاب، وإبراز القيم السمحة التي يدعو إليها.
وقد يساهم المجتمع المدني في تعزيز التواصل بين الشباب وتبادل الثقافات والتجارب الخاصة بنشر قيم السلم والحوار و العمل على اشراك المجتمعات وبصورة فاعلة لتعزيز ثقافة الحوار ونبذ العنف بأشكاله كافة.
المحور الرابع : المبادرات الثقافية و الفنية و الإعلامية لنشر ثقافة السلم التعايش وقبول الأخر.
أعتقد أن دور مؤسسات المجتمع المدني هو الرائد في توعية الشعوب وتأهيلها والارتقاء بها إلى المستوى الحضاري المطلوب، لتلتقي فيما بينها، ثم تلتقي، بعد ذلك، مع سائر الشعوب.
كما أن المسلمين والمسيحيين يمتلكون مناهجَ دينية واضحة تؤهلهم لأن يبنوا مجتمعاً إنسانياً راقياً، ويمدوا جسورًا للتواصل بينهم وبين الشعوب ليلتقوا معها على القيم الحضارية والأخلاقية .
ففي الإسلام والمسيحية متسع رحب لكل بني البشر. وقد خاطب السيد المسيح عليه السلام الناس قائلًا: “أحبوا بعضكم بعضًا”، جاعلًا الحب أساس العلاقة بين الناس. وقال الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم: “الناسُ كلهم عيالُ الله وأحبُهم إلى الله أنفعُهم لعياله”، وجاء في القرآن الكريم: “وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”،
وهذا التسامح بين الديانين يمكن أن تسهم فيه بقوة مؤسسات المجتمع المدني ، باعتبارها الطريق السليم للوصول إلى الغاية المنشودة من خلال مجموعة من الأدوار الثقافية ، نذكر من بينها :
أولا : الثقافة السياحية
للسياحة دور في تذليل العوائق القائمة بين الثقافات، وفي تعزيز التسامح والتفاهم والإحترام المتبادل. ففي عالمنا الذي غالبا ما يعاني من الإنقسام ، تمثل هذه القيم الأساس الذي عليه يقوم مستقبل يعمه مزيد من السلام.
فمن خلال السياحة ، نستطيع التعرف على ثقافة جديدة عن طريق الاحتكاك بها مباشرة . والسياحة هي الخيط الرفيع الذي يصل بين الزائر والمجتمع الذي يحل فيه ضيفا، كما أن هذا الاتصال بين أناس تتباين مشاربهم هو أساس التسامح ويمكن للسياحة أن تبني جسورا وأن تسهم في إحلال السلام وتحقيق التعايش السلمي. فلا شك أن السفر يمنح شعوب العالم الفرصة للتقارب والتفاعل مع الثقافات الأخرى .
إن السياحة صلة وصل بين الثقافات ، وهذا يعني اختبار أنواع مختلفة من الحياة واكتشاف أنواع جديدة من الطعام والعادات وزيارة المواقع الثقافية.
ثانيا : الفنون بمختلف اشكالها
إن الفن من أهم الرسائل في نشر ثقافة السلم ، ونبذ كافة أشكال التعصب والإقصاء والتهميش والعنف، وتقبل الآخر، وتعزيز لغة الحوار حيث يساعد الشباب على استثمار طاقاتهم بطرق ايجابية.
ويلعب الفن دورا كبيرا في تهذيب الذوق و صقله لأن مجاله هو الجمال و الاقبال عليه يسمو بالإنسان. كما يذكي الفن إحساس الانسان بالجمال و يكسبه القدرة على تحسس مواطنه في العالم المحيط به فيتذوقها و يلتذ بها.
وقد يؤدي المجتمع المدني دورا أساسيا في تشجيع المواهب عند الشباب والقضاء على أوقات الفراغ ومحاولة دعمهم ومساندتهم وتنمية مواهبهم بالإضافة التسامح بين الأديان.
و في هذا الاطار يمكن للمجتمع المدني أن يقدم برامج ثقافية موجهة لطلبة الجامعات من مختلف أنحاء العالم، لتجسيد التسامح بطرق فنية مختلفة مثل عروض مسرحية، ومعارض فنية، وكتابة قصص فنية قصيرة، إضافة إلى طرح مبادرات اجتماعية للتسامح.
ثالثا : العروض المسرحية
إن أي مسرح، مهما كان شكله ومضمونه، فهو قادر على تحقيق التعايش السلمي ، لأنه يقوم على عمل جماعي ويستهدف جماعات، وهذا تمرين على مسألة قبول الآخر. بالإضافة إلى أن الجمهور في فن المسرح ليس آخراً، بل هو جزء أصيل من عناصره، فالمسرح بلا جمهور ليس بمسرح، والمسرح يوحد مشاعر المتفرجين، وهذا التوحيد درجة متقدمة من درجات السلام الاجتماعي وقبول الآخر.
كما أن الصراع الموجود على خشبة المسرح لا ينتج صراعاً في الصالة بين المتفرجين، فهو مركَّب ليوحِّد الجمهور في حالة شعورية مشتركة . فتجمع الفرق المسرحية بين المختلفين (سياسياً وعرقياً وفكرياً) يمكن لها أن تنتج عملاً موحداً.
لذا ، فإن المجتمع المدني يمكن له ، عن طريق الجمعيات التي تعنى بالمسرح ، أن توظف هذا الفن لخدمة السلام والتعايش السلمي وإنعاش الحوار بين الثقافات.
خامسا : العروض السينمائية
يمكن للمجتمع المدني من خلال عروض سينمائية أن يسهم في تعزيز الحوار و السلم ، كعرض أفلام تناقش نبذ العنف والتطرف. فهناك أفلام تدعو للتعايش والسلام وأخرى تعرض نتائج النزاعات المسلحة وتأثيرات الحروب على النساء والاطفال ، وهناك أفلام تناقش تأثيرات الحرب الأهلية وما تتركه من شروخ داخل المجتمع، أو أفلام تسلط الضوء على دور النساء في السلام وصنعه وتكريسه في المجتمعات، وغيرها من الأفلام التي تناقش قضايا المذهبية والطائفية وأثرها على المجتمعات والأقليات .
خاتمة :
نستنتج على ضوء ما تقدمنا به أن الأدوار الثقافية لمؤسسات المجتمع المدني في تعزيز وإشاعة ثقافة الحوار والسلم مهمة جداً وحاجة مُلحة ، مما يستوجب إشراك هذه المؤسسات في المجهودات الوطنية و الجهوية والدولية، وتوفير كافة الظروف اللازمة لها لتعزيز دورها المحوري في إطار من المسؤولية والاستقلالية ، من أجل تكريس ونشر ثقافة الحوار و التسامح الديني ومد جسور التواصل والتقارب بين الحضارات ، وكذا التحسيس بأهمية التفاهم والتعايش بين الأديان والثقافات ، و الذي من شأنه أن يساعد المجتمعات على مكافحة التطرف والنعرات القبلية الاثنية والطائفية، وإعداد مجتمع بديل يحترم التعددية الفكرية والثقافية والدينية، ويؤمن بمبادئ الحوار والتعايش السلمي.