أخبار العالم

الدوحة حوّلت ليبيا غرفة عمليات «إخوانية»

ربما يكون الفشل في التخطيط ليوم ما بعد التدخل في ليبيا”، كان هذا جواب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على سؤال وجهته له قناة “FOX NEWS” حول أسوأ خطأ ارتكبه في تاريخ رئاسته للبيت الأبيض. وهو الجواب الذي يقطع بفشل الأطروحة الأميركية حول تصورها للشرق الأوسط الكبير، والذي عملت من خلاله على الإطاحة بالأنظمة السياسية وتسليمها لقوى قادرة، حسب تصورها، على تأطير الشعوب مع ضمان الولاء للولايات المتحدة الأميركية وتنفيذ أجندتها في المنطقة.

“رصاصة الرحمة”

لعل المتابع لتطور الوضع في ليبيا، وسورية وتونس ومصر، يقطع بأن ما اصطلح عليه بـ”الربيع العربي” كان بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقت على هذه الدول، والتي تحتاج إلى سنوات طويلة لإعادة الأمور، إلى فترة ما قبل سنة 2011م.

ونرى أنه من غير المفيد العودة إلى السياقات التاريخية لتفجر الوضع في ليبيا سنة 2011م، على إثر الهزات الارتدادية للحركات الشعبية “المُوجهة” التي بدأت من تونس ثم مرت إلى مصر لتستقر في ليبيا، معلنة نهاية نظام معمر القذافي الذي استمر لـ42 سنة من الحكم الفردي، والذي على الأقل، كان محافظا على وحدة الأراضي الليبية ورفع من مؤشر الدخل الفردي لليبيين ليصل إلى أعلى المستويات مقارنة مع باقي دول العالم، قبل أن تتحول ليبيا إلى بلد فقير تتقاسمه أطماع قبلية وقوى إقليمية ودولية، في الوقت الذي لعبت فيه قطر دوراً محوريا في تسهيل عملية اقتسام الكعكة الليبية.

“الملف الليبي”

في هذا السياق، فإننا نرى أن مقاربة الأزمة الليبية من جميع جوانبها تعتبر عملية جد معقدة، لذلك نرى ضرورة تحديد أهم المحاور في الملف الليبي والتي لها إسقاطاتها الجيوسياسية على المنطقة العربية والإسلامية، دون إغفال لأطماع دول غربية وخاصة تلك التي لازالت تعتبر ليبيا بمثابة شاطئها الرابع، وتحن لماضيها الاستعماري الطويل في ليبيا، مما دفعها إلى اختيار التحالف مع التيار الإخواني على حساب السلطات الشرعية ومن بينها الجيش ومجلس النواب.

وبعيدا عن الأضواء، وعن حسابات القوى العظمى، كانت المؤامرات تحاك وراء كواليس الخيانة والغدر، وظلت قوى إقليمية تصرف استراتيجيتها بالمنطقة مع ما يتوافق ومحددات الرسم الاستراتيجي الذي كانت عرابته الرئيسة الولايات المتحدة الأمريكية على عهد حكومة الرئيس السابق باراك أوباما. هذا التوجه الذي حكم السياسة الخارجية الأميركية يقضي بضرورة التحكم في خارطة العالم عن طريق تقسيمه إلى “فاعلين جيوستراتيجيين” و”محاور جيوسياسية” يتم التعامل معها بطريقة تمنع أي تمدد محتمل للصين في اتجاه الغرب أو عودة قوية للدب الروسي للعب دور متزايد في المنطقة، في ظل عدم استعداد موسكو للتنازل عن مناطق نفوذها القديمة في كل من آسيا الوسطى والقوقاز والشعوب السلافية وكذا الدول المطلة على بحر قزوين.

“الحلم التوسعي”

أمام هذه التحديات، رأت قطر أن تحولها من دولة عادية بمساحة صغيرة وتركيبة سكانية هجينة، إلى دولة قوية يمر عبر إخضاعها لمجموعة من البلدان العربية والإسلامية عبر تشجيع جماعات الإسلام السياسي للوصول إلى السلطة وخلق كيانات تابعة إيديولوجيا للإخوان المسلمين وسياسيا للدوحة. هذا الحلم التوسعي لقطر، يبقى في نظرها، مرحلة مفصلية ومهمة لتتحول من دولة “مجهرية” إلى “محور جيوسياسي” يفرض على القوة الأولى في العالم أن تتعامل معها على هذا الأساس.

من هنا تبدو الصورة واضحة لدى حكام قطر، من خلال محاولاتهم الجادة إخضاع شمال إفريقيا لوصايتها السياسية، ومواصلة استهداف دول الخليج لإعادة رسم تحالف ثلاثي الأضلاع يضم كل من تركيا وإيران وقطر، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بالقضاء على الصخرة المملكة في المنطقة.

هذا التوجيه المنهجي، سيمكننا من فهم الدور القطري والتركي والإيراني في ليبيا، رغم أن القوتين الأخيرتين غالبا ما تتعاملان بكثير من الذكاء مع البيئات الاستراتيجية المتغيرة من خلال دفع قطر إلى خلخلة الوضع السياسي في الدول “المرشحة للتغيير” قبل الدخول على الخط لجني ثمار الجهد القطري.

اعترافات خطيرة”

في هذا السياق، سبق لوزير العدل الليبي الأسبق محمد العلاقي أن وصف العلاقات القطرية الليبية بالممتازة، مؤكدا أن الدور القطري في “تحرير” ليبيا سيبقى دينا في أعناق الليبيين على مدى التاريخ. وأضاف الوزير الليبي: “إن قطر قدمت نموذجا لمعنى التضامن والأخوة العربية، واصفا إياها بأنها الدولة الوحيدة التي كان لها دور واضح وجلي منذ البداية في دعم الثورة الليبية.. وأحيي حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد “المفدى” والحكومة والشعب القطري”. هذا التصريح، الذي أعقب تفجر الأوضاع في ليبيا، يعتبر صك اعتراف صريح بالدور القطري في تفكيك ليبيا وتحميلها مسؤولية ما وصل إليه الوضع الأمني من تدهور نتيجة حسابات هيمنية غير محسوبة العواقب، ساهم في تعميقها من تحملوا مسؤولية الحكم في ليبيا لمرحلة ما بعد القذافي حيث كان أغلبهم يقيم في قطر وعلى رأسهم المدعو محمد العلاقي نفسه.

“حروب طاحنة”

لقد لعبت قطر، على هذا المستوى، دورا مركزيا في “ذبح” ليبيا بالنظر إلى جهلها المسبق بمحددات البيئة الاستراتيجية الليبية وكذا الإسقاطات الكارثية التي من الممكن أن تعقب أي تغيير في رأس هرم الدولة، في ظل مؤشرات واضحة على دخول البلاد في حروب داخلية طاحنة للوصول إلى السلطة في بلد يغلب عليه الطابع العشائري والولاء لزعماء القبائل، إضافة إلى الأخطار المرتبطة بانتشار خارطة التنظيمات المتطرفة التي أتاح لها غياب السلطة المركزية فرصة كبيرة للتوسع وفرض سيطرتها وأجنداتها على مدن ليبية عدة، حتى أصبح الحديث اليوم عن تحول “اضطراري” لمركز “الخلافة” الجديد من العراق وسورية إلى ليبيا.

على هذا المستوى قامت قطر بتحريك بعض القوى السياسية التابعة لها، وخصوصا تنظيمات الإسلام السياسي لعلاقتها الوثيقة بها، من أجل الدفع بها لواجهة الأحداث كأدوات تخدم مشروعها في المنطقة، والعمل على التحول إلى قوة إقليمية ذات تأثير في عملية رسم الخارطة السياسية في المنطقة. والغريب أن الدوحة التي نصبت نفسها كعرابة للمشروع الديمقراطي ومبادئ تقرير المصير في المنطقة العربية، هي آخر من يطبق هذه المبادئ في الداخل القطري، من خلال إحكام قبضتها الأمنية على الشعب القطري ولو استدعى الأمر اللجوء إلى الحماية التركية والإيرانية لضمان استمرار إمساك “الحمدين” بأركان الحكم في قطر. هكذا، إذا، تم التغرير بالشعب الليبي الشقيق، والذي لم يستوعب أنه ليس لقطر ما تقدمه لليبيين، فقطر هي آخر دولة يمكنها أن تتحدث عن الحرية والديمقراطية والدستور والمواطنة، حيث إن فاقد الشيء، ببساطة، لا يمكن أن يعطيه.

“مساعٍ حثيثة”

ويبدو من التفاصيل أن قطر كانت تسعى إلى الحصول على صفقات استثمارية في ليبيا حتى أواخر عام 2010، إلا أن مقربين من القذافي وقفوا ضد الطموحات القطرية، وهو ما دفع الحمدين إلى تبني موقف عدائي من طرابلس، كشفته العديد من الشهادات التي وثقت لاجتماعات بين الطرفين. كما أنه أصبح في حكم المعلوم أن فرنسا أيضا، على عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، كانت لديها طموحات كبيرة لم تتحقق في ليبيا، إذ كانت تريد عقوداً لصفقات ضخمة، أهمها توريد طائرات رافال، كأول عملية تصدير لهذا النوع من الطائرات إلى بلد خارجي.

وهنا يتبين أن النظام الليبي راهن عليه الأعداء في الداخل والخارج، مما ساهم في تشكيل جبهة عريضة تطالب برأس الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، خصوصا وأن الدور التخريبي القطري في ليبيا التقى مع رغبة بعض القوى الكبرى في تصفية القذافي سياسيا وجسديا بالنظر إلى حجم الأسرار التي كان يمتلكها والتي تبقى مهددة بالفضح في ظل “الشخصية القلقة” لمعمر القذافي.

“شهادة العصر”

وهنا نشير إلى شهادة رجل الأعمال اللبناني زياد تقي الدين، الذي شارك في اجتماعات كان فيها بعض كبار المسؤولين القطريين والفرنسيين والليبيين، والذي صرح بأن سبب الفاجعة التي حلت بليبيا، هو “التحالف الفرنسي-القطري لإسقاط نظام القذافي”، وأنه “جرى استخدام كل الوسائل لتحقيق هذا الغرض”.

وفي نفس الاتجاه تحدث الخبير الجيوستراتيجي باتريك مبيكو عن لقاء سري عقده رئيس جهاز الاستخبارات القطري بتاريخ أبريل 2010 مع نظيره البلغاري قال فيه “نرتب لعمل شيء ما في شرق ليبيا”. هذا في الوقت الذي وجه فيه أحد كبار المصرفيين في البنك المركزي الليبي ضربة موجعة لنظام معمر القذافي حين التقى بمسؤول في الخزانة الأميركية، ومنحه جميع الحسابات الخاصة بأرصدة بلاده، مما سهل لدول كبرى عملية تجميد هذه الأرصدة في وقت مبكر. هذا في الوقت الذي تشير فيه الدلائل إلى ضلوع أحد زعماء جماعة “الإخوان” المرتبط بالدوحة، بترتيب هروب هذا المصرفي إلى قطر في أول أيام التمرد على القذافي. وبحسب تحقيقات مبدئية، فقد جرى رصد تقارب سريع له مع الزعيم الإخواني.

في الحلقة القادمة سنرصد للتقارب الإخواني القطري في ليبيا، وكيف تحول الإخوان من حلفاء لمعمر القذافي إلى أول المنقلبين عليه، في تعبير سياسي تكتيك يحيل على تكتيك ثابت للتنظيمات الإخوانية منذ تأسيسها سنة 1928م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى